IMLebanon

نهج السيسي.. دواء للأزمة السياسية الداء في لبنان

عندما يحدث في الدولة، أي دولة، إفلاس في صفوف أهل السياسة والعمل الحزبي، وتصبح البلاد على مشارف الانهيار، تقتحم المؤسسة العسكرية، وفي أشخاص بعض جنرالات أو مَن هم أدنى مرتبة، الموقف لتفادي الانهيار. حدث ذلك يوم 23 يوليو (تموز) 1952 في مصر ومن دون أن تسقط ضحايا لأن الشعب كان في غاية الضيق من أفعال أهل السياسة والزعامات الحزبية. وقبل ذلك بنحو ثلاث سنوات (الأربعاء 30 مارس 1949) حدث في دمشق أمر مماثل قام به مجموعة ضباط يترأسهم الجنرال حسني الزعيم، ومن دون أن تسقط ضحايا، لأن الشعب أيضًا كان في غاية الضيق من ألاعيب أهل السياسة والزعامات الحزبية. وفي السودان، قام مجموعة من الضباط برتبة رائد يتزعمهم العقيد جعفر نميري يوم 25 مايو (أيار) 1969 بانقلاب عسكري، لأن تركيبة الحكم التي تمثِّل معظم أحزاب السودان كانت نجحت في إسقاط حُكْم الجنرالات الذي يتزعمه الجنرال إبراهيم عبود، لكن ما أن تحاصصوا المناصب والسلطات حتى بدأوا يتنافرون ثم انعكس تنافرهم ضيقًا من جانب الناس بهم، وهذا يسَّر لمجموعة الضباط الرواد أمر إسقاط أول تجربة حُكم في العالم العربي تتشكل بصيغة ائتلاف يضم كل الأحزاب والأطياف؛ حيث الأنصاري والختمي والشيوعي والناصري والإخواني والاشتراكي، يقودون ويزرعون في نفوس الناس الأمل بأن لا مجال بعد الآن للحكم العسكري. ولكن ما كل ما تمناه السوداني أدركه، وجاءت فترة التشكيلة الحاكمة تصدم الرأي العام بالصراعات الأشبه بصراعات الأطياف السياسية والحزبية في لبنان وبعض دول الأمة. ثم عاود جنرال آخر هو عمر حسن البشير الفعل الانقلابي نفسه على تجربة تشاركية أخرى مبتورة، وساعده على ذلك الغطاء الإسلامي في شخص الشيخ حسن الترابي الذي خسر حلفاء الأمس وخاب أمله في الحليف العسكري عمر البشير الذي بعدما تعلَّم الرماية السياسية من دون أن يفقد عسكريته واشتد ساعده بتحالفات ابتكرها، رمى الشيخ أسوأ رمية مستمرة حتى الآن بصيغ متنوعة.

وعندما وصلت أحوال مصر مع أهل السياسة والأحزاب، ومغادرة الدكتور محمد البرادعي أحد رموز الدعوة إلى عهد مستقيم، البلاد غير مستعد للتضحية، ووجد المصريون الخائفون على مصر التي يريدون اصلاح أمرها، أن بلدهم إلى مصير مجهول، فاجأهم جنرال مقدام انتفض، وقال بلهجة الخائف مثلهم إنه قادر أن يكون منقذًا. وبعدما أورد ذلك في بيان باسم الجيش الذي هو القائد العام له، فإنهم شعروا بطمأنينة الأمن من خوف، واعتبروا البيان وخريطة الطريق التي أوضحها بمثابة بداية لاستعادة مصر قبل أن يلتهمها «الأسد الإخواني» الفاغر فمه المطمئن إلى أن الغرب الأميركي – الأوروبي غير معترض على هذا «الأسد» الجديد.

في بيان خريطة الطريق، حسم الفريق عبد الفتاح السيسي الأمر، وبدأ السياسيون وزعماء الأحزاب يتراجعون خطوات وخطوات، وبدأ الجيش المصري يرمم ما يجب ترميمه، وبذلك شعر المواطن في مصر بنسبة من الأمان ومثلها من التفاؤل بغد أفضل.

ولأن لكل جنرال ملامح في خريطة الطريق، فإن من جملة اهتمامات جنرال الانقلاب الأول حسني الزعيم كان التطلع نحو استحداث تغيير في السلوك، ونراه عندما التف حوله إعلاميون سوريون وأجانب يوم الاثنين 11 أبريل (نيسان) 1949 يسألون عن دواعي الانقلاب الذي قام به ضد السياسيين وزعماء الأحزاب، يقول: «لقد أصدرتُ الأوامر المشدَّدة إلى الجهات المختصة بمنع الإتجار بالرقيق في منطقة اللاذقية (إحدى مناطق الطائفة العلوية) وحظَّرتُ القيام بذلك تحت طائلة العقوبة بعد المحاكمة. كما أننا نعمل الآن لإجراء تنظيم اجتماعي في سوريا يتناول توحيد الأزياء ومنْع العقال والكوفية والشروال… الخ، بغية النهوض بالبلاد نهضة اجتماعية تتفق مع البلاد المتمدنة من هذه الوجهة. أما أهل القرى، فإنهم بحاجة إلى تنظيم فني وصحي وجمْع كل أربع قرى بقرية واحدة نموذجية..».

لم يسلم لبنان من ظاهرة محاولة التغيير عن طريق الجنرالات، فقد حاول عدد من الضباط المنتمين إلى الحزب القومي السوري، القيام بانقلاب ضد الرئيس فؤاد شهاب يوم 1 يناير (كانون الثاني) 1962، لكنها كانت محاولة غير مرحَّب بها أصلاً. لكن المحاولة الجدية بعض الشيء حدثت عام 1976، وكان مضى على بداية الأزمة، التي انتهت حربًا أهلية أو فلنقل حقل تجارب صراعات عربية ودولية على أرض لبنان، أحد عشر شهرًا ذاق اللبنانيون خلالها مُرّ العيش والخوف، وتمثلت المحاولة ببيان من نوع البيانات الانقلابية العسكرية يحمل توقيع العميد أول الركن عزيز الأحدب قائد منطقة بيروت و«الحاكم العسكري المؤقت»، تلاه مساء يوم الخميس 11 مارس 1976 عبْر شاشة التلفزيون، أحد الضباط، ولمجرد تلاوته ساد شعور عارم من الترحيب والطمأنينة نفوس اللبنانيين غير المنتمين إلى الميليشيات التي تكاثرت زمنذاك و«الجيوش» التي أسسها زمنذاك و«الجيوش» التي أسّسها زعماء أحزاب. ومن مظاهر الترحيب بالحدث الانقلابي، إطلاق رصاص الابتهاج بكثرة، لأن البلاغ رقم واحد للحركة الإصلاحية، هكذا سُميت، طلب استقالة رئيس الحكومة العاجزة «وإلاَّ اعتبرت بحكم المستقيلة»، واستقالة رئيس الجمهورية سليمان فرنجية «وإلاَّ اعتبر بحكم المستقيل»، وإعلان حالة الطوارئ في البلاد؛ مما يشل نشاطات الميليشيات ودعوة مجلس النواب إلى انتخاب رئيس جديد للبلاد. ويختم جنرال الحركة الانقلابية البلاغ رقم واحد بالتأكيد على أنه ليس طامعًا بالحكم ولا يؤمن بالحكم إلاَّ كوسيلة لإنقاذ حُكْم متدهور، «لذلك قررتُ الاحتفاظ بمركزي الطبيعي كقائد لمنطقة بيروت وسأسلِّم أمانة الحُكْم إلى أصحابها فور انتخاب رئيس جديد..».

أهمية هذه المحاولة أنها كانت تضم عددًا كبيرًا من الضباط من جميع الطوائف اللبنانية، وكانت مقارنة بالذي جرى بعد 74 سنة في مصر شبيهة في بعض جوانبها بالذي فعله الفريق عبد الفتاح السيسي، لكن المؤسسة العسكرية في مصر موحَّدة ولا تتأثر بالتوجهات والزعامات السياسية، كما أن ولاءها للوطن من المقدسات، ولذا فعندما يتخذ القائد العام خطوة كتلك التي اتخذها الفريق عبد الفتاح السيسي، وفي ظل ظروف بالغة التعقيد، فإن المؤسسة ضباطًا وجنودًا تلتزم بما يقرره القائد، بينما الخطوة التي حدثت في لبنان وأشرنا إليها انتكست، لأن تجربة وحدة المؤسسة العسكرية هشة، بدليل أن الجيش اللبناني انقسم زمنذاك «جيوشًا» يتبع كل «جيش» زعامة سياسية أو مذهبية، وهذه نقطة الضعف في المؤسسة، وفي الوقت نفسه، عنصر طمأنينة للزعامات السياسية والدينية والمذهبية التي لن تخشى انقلاب المؤسسة عليها عندما تكون هنالك أزمة خانقة تعيشها البلاد ولا يؤدي أهل السياسة والأحزاب الواجب المطلوب منهم.

بات لزامًا، بعد هذا الاستحضار لنماذج من محاولات انقلابية حدثت نتيجة أزمات سياسية انعكست متاعب شديدة الوطأة على المجتمعات العربية، على بعض رموز العمل السياسي والحزبي أن يعترفوا بأنهم ليسوا في مستوى معالجة أزمات وطنية أو اجتماعية تحدث في أنظمة يتولون مناصب ومسؤوليات. ولنا على سبيل المثال، هذا الذي يعيشه لبنان؛ حيث إن منصب رئاسة الجمهورية خالٍ منذ أكثر من سنة، ومع ذلك لا يتفق أهل السياسة والزعامات الحزبية على صيغة حل، وأن أطماع البعض من هؤلاء على مكاسب شخصية تجعلهم لا يتداعون إلى اتخاذ موقف موحَّد ينقذ الناس من كارثة النفايات المتكدسة في الشوارع التي سببها تقاعُس رموز الحكم والسياسة والأحزاب؛ أي أنها من صُنْع البشر وليست من جرَّاء عوامل طبيعية، مثل الزلازل والفيضانات على سبيل المثال.

بالنسبة إلى لبنان بالذات نخلص إلى القول إن الأزمة السياسية التي يكتوي اللبناني بها باتت أقرب إلى الداء منها إلى الأزمة العابرة بعد ممارسات أهل السياسة ومغامرات بعض الأحزاب داخل الوطن، وفي الدولة الجارة المبتلاة بما هو أعظم، ثم بعد ظاهرة النفايات التي يتحمل المسؤولية في شأنها، قبل أهل السياسة والزعامات الحزبية، جموع المواطنين التي لا تخرج، مثل الجياع، على هؤلاء شاهرة سحْب الثقة منهم. ومثل هذا الداء لا علاج له بل ولا دواء إلاَّ بلحظة انتفاضة يصبح فيها أبناء المؤسسة العسكرية بالحس الوطني والشعور المخلص بأوجاع الناس على نحو ما حصل في يوليو من عام 2013 عندما خرج عبد الفتاح السيسي على المتلاعبين بأقدار مصر شاهرًا خريطة طريق. وها هو يعمل جاهدًا لتنفيذ مضمونها. كما ها هي مصر على سكة السلامة.