تستعدُّ إسرائيل، خلال الأسبوع المقبل، لتنفيذ انسحاب مفاجئ من النقاط الخمس المتنازع عليها مع لبنان، وفقاً لمصادر أمنيّة رفيعة، في خطوة لا يُمكن مقاربتها بمنظار جغرافي أو عسكري ضيّق، بل كمؤشّر بالغ الدلالة على ما يُحضّر في الكواليس السياسية والأمنية من تفاهمات كبرى قد تعيد رسم معالم المرحلة المقبلة.
الانسحاب بحدّ ذاته ليس تفصيلاً ميدانياً ولا يمكن اعتباره مجرّد إجراء موضعي. إنه تحرّك محسوب، يحمل بين طيّاته إشارات تتعدّى التخوم الجغرافية، ويشي باحتمال وجود مسار أوسع يُراد له أن يبدأ من الجنوب، لكن لا يُعرف أين ينتهي. فحين تنسحب إسرائيل من نقاط كانت لعقود موضع نزاع، بلا مقابل علني، تتقدّم الأسئلة على الأجوبة: لماذا الآن؟ وبموجب أي تفاهم؟ ومن يضمن استمرارية هذه الخطوة في ظل صراع مفتوح يتجاوز لبنان إلى الإقليم؟
ليس سرّاً أن الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران لم تكن كسابقاتها. إنها الحرب التي كادت تشعل المنطقة برمّتها، لكنها أيضاً الحرب التي فرضت على اللاعبين الأساسيين الوقوف على حافة الهاوية، ثم التراجع بخطوات مدروسة. وفي هذه اللحظة الحرجة تحديداً، يُرجّح أن يكون تمّ تثبيت تفاهمات غير معلنة، برعاية أطراف إقليمية ودولية، لإعادة ضبط قواعد الاشتباك وتجميد الجبهات الأكثر هشاشة. من هنا، يُقرأ الانسحاب الإسرائيلي كترجمة أولى لمعادلة «هدوء مقابل هدوء»، أو بالأحرى «ضبط مقابل ضبط»، حيث التفاهمات لا تُعلَن، لكنها تُنفّذ على الأرض.
أما سلاح حزب الله، فهو في صُلب هذا التبدّل. فحتى اللحظة، لم تظهر مؤشرات علنية على صفقة تقضي بنزع هذا السلاح أو تحجيمه، لكن القراءة في السياق تفيد بأن الملف لم يُسحب من الطاولة، بل أعيد ترتيب أولوياته ضمن تفاهمات أشمل، قد تبدأ من التهدئة الحدودية، لكنها لا تنتهي عندها. فحين تُرسم خطوط حمراء جديدة بدم الاشتباك الإيراني – الإسرائيلي، من غير المستبعد أن يكون حزب الله طرفاً فيها، إما ضمناً أو بتفاهمات مرحلية تنتظر الترجمة لاحقاً.
الحدود الجنوبية كانت دوماً مرآة لما يُطبخ في العمق. واليوم، مع هذا الانسحاب المرتقب، تتجه الأنظار إلى ما إذا كان المشهد اللبناني، بشقّيه السياسي والأمني، على عتبة تغيير جذري. فالتاريخ يُعلّم أن الخطوات الميدانية التي تبدأ بالصمت، تنتهي عادة بانفجار سياسي كبير، أو بترسيم مرحلة جديدة. وفي الحالتين، يبدو أن لبنان يدخل من بوّابة الجنوب فصلاً جديداً، كُتِب بالحبر السرّي… وما على الداخل سوى أن ينتظر ترجمته، بنداً بنداً.