IMLebanon

الخامس من آب والخامس من أيلول يومين مشهودين في الحياة السِّياسيَّة اللبنانيَّة

 

لم تعرف الدَّولة اللبنانيَّة منذ ما يقارب ثلاثَة عُقودٍ من الزَّمنِ قراراتٍ سياديّة بأهميَّةِ القرارين اللذين اتَّخذتهما الحكومةُ في جلستين منفصلتين عقدت الأولى في الخامس من آب تقرَّر فيها حصريَّةِ السِّلاح في القِوى العسكريَّةِ والأمنيَّة الرَّسميَّة، أما الثانيَة جاءت بعد شهر بالتَّمام والكمال وضعت قيها القرار موضع التنفيذ وفق الخطَّة التي أعدّتها قيادة الجيش، وعليه أضحى القرار من المُسلَّمات الوطنيَّة إيماناً من المسؤولين بأن السِّلاح بحوزة القوى النِّظاميَّة هو وحده السِّلاح الذي يحظى بالمَشروعيَّة، لكونه سلاحاً منضبطاً يُستخدمُ وفق النُّصوص الدُّستوريَّةِ والقانونيَّةِ، وهو الذي يصون الوطن ويحميه من أيَّةِ مَخاطِرَ خارِجيَّة أو داخِلِيَّة، وهو السِّلاح الوحيد الذي لا يزيح عن وجهته الصَّحيحة وأهدافه الوطنيَّةِ ولا يَضِلُّ حاملوه عن واجِباتهم المقدَّسة.

أخذ البعض على هذين القرارين كونهما اتُّخِذا بعد انسحاب الوزراء الممثلين للثنائي الشِّيعي من كلتا الجلستين، في الواقع إن كان هناك ما يَعيب هذين القرارين، فهو التَّأخير والتَّردُّد في اتِّخاذهما لسنين طوال، وأن الأول لم يأتِ بمُبادرةٍ لبنانيَّة خالصةٍ حرَّةٍ ومُستقلَّة، إنما تحت تأثير ضُغوطاتٍ خارجيَّةٍ أميركيَّةِ مباشرة وأخرى إسرائيليَّة غير مباشِرة، بحيث جاء بعد حرب ضروس ما بين العدو الإسرائيلي وحزب لله، هذا الحزب الذي أنشأه النِّظام الثوري الإيراني وعمل على تدريب عناصره وتزويدهم بمُختلف احتياجاتهم العسكريَّة واللوجستيَّة والماليَّة، وقد عمل النظام الإيراني بالتَّنسيقِ مع النِّظام البعثي في سوريا على حصر أعمال مُقاومَةِ الإحتِلالِ الإسرائيلي بحزب لله بشراكة متواضِعة من حركةِ أمل وبعضِ الأحزابِ المحسوبةِ على الِّنظامُ السوري، بعد أن تولَّت القواتُ السوريَّةُ العاملة في لبنان وجهاز مُخابراتها مهمَّة تَجريدَ باقي الأحزاب اللبنانيَّةِ من قُدراتِها العَسكريَّةِ وتَصفِيَةِ مًعظَم قادَتِها.

 

انتهت المُواجَهَةُ العَسكريَّةُ الأخيرة بنتائجَ عَسكريَّةٍ كارِثيَّةٍ على الحزب، الذي دخل الحرب كجبهة إسناد لحماس، ولكن خسائرها لم تقتصر على شاكلة خسائر المنازلات السابقة «أي استِشهادِ بعض المُقاتلين وتدمير بِضعَةِ مواقِعَ عَسكريَّةٍ وتعطيل عدة مرابض مدفعيَّة ومنصات صواريخ»، إنما تمكَّن العدو الإسرائيلي هذه المرَّة من تَصفيةِ مُعظَمِ القِياداتِ العقائديَّة والعسكريّة الهامَّةِ في الحزب وعطبِ مُعظم مِنصاتِ إطلاق الصَّواريخِ والقضاء على سدنتها وقصف غالبيَّةِ مَخازنِ الأسلِحَةِ على امتدادِ الجُغرافيا اللبنانية. ورغم إقرار اتفاق لوقفٍ إطلاق النار ما بين لبنان والعدو الإسرائيلي برعايَةٍ أميركيَّةٍ – فرنسيَّة، إلَّا أن العدو لم يلتزم به فاقتصر الإلتزام على الجانب اللبناني.

خلطَ قرار حصر السلاح بالقوى النظاميَّة كل الأوراق السِّياسيَّة في لبنان، وكاد أن يُطيحَ بكُلِّ المَساعي الراميَة إلى استعادة الدَّولةِ لسيادتها الداخليَّة وبالمسار التَّوفيقي ما بين الثنائي وباقي المُكوِّنات الوطنيَّة؛ وبدا تنفيذ هذا القرار في ظلِّ الكباش السياسي القائم من شبه المُستحيلات، ففي الوقت الذي يُصرُّ فيه الثُّنائي وبيئته الحاضنة على تمسُّكِهم بالسِّلاح تُصِرُّ باقي المُكونات اللبنانيَّة على موقِفِها الدَّاعي إلى حَصرِ السِّلاحِ بالقِوى النِّظامِيَّةِ اللبنانيَّة والذي يتماهى مع المطالبِ الدَّوليّةِ والإقليميَّة والتي تُرجمَت بمواقِفَ مُتصلِّبة للموفدين الأميركيين.

 

يثيرُ هذا التَّصلُّبُ في المَواقِفِ إشكالِيَّةً يقتضي حلُّها تبنّي مُقاربةٍ تُوازِنُ ما بين حِفظِ الكراماتِ وتَقديرِ التَّضحيات هذا من جهة ومن جِهةٍ أُخرى تضَمنُ صونَ المَصالحَ الوَطنيَّةِ العُليا؛ وبالتالي لا بُدَّ من فهم القرار في سياقٍ وطني جامِع لا من باب التَشفي والانتقام، وبعيداً عن مَشاعِرِ الغلبة والانتِصار مقابل الضَّعف والإنكسارِ؛ والبداية تكون برسالة تطمينيَّة عبر تثمين الجهود العظيمة التي بذلت في مًعرضِ التَّصدي للعدو الإسرائيلي وعدَمِ التَّنكُّرِ لتَضحياتِ المُقاومّة، وتقييم انتصاراتِها وانتِكاساتها، واستقاء العِبَر من تجارُبِها الماضية لتلافي الوقوع بذات الأخطاء مُجدَّداً ولتلافي المزيد من الخسائر.

إن المسؤوليَّة الوطنيَّة تُملي على الجميع التَّخلي عن الإصطفافات الفئويَّة والتَّلاقي حول اهتماماتنا الوطنيَّة ومصيرنا المُشترك، واحترام كل مكون لخصوصِيَّاتِ المُكوِّناتِ الوطنيَّة الأخرى وتفهُّم هواجِسها، من دون الإخلال بمقتضياتِ بناء دولةٍ واحِدةٍ ومُتماسِكَة، دولةٌ سيِّدةٌ حرَّةٌ ومُزدهِرَة؛ وأن الخُروجَ من المأزَقِ الذي نتخبَّطُ فيه يوجب على أصحاب القرار أن يدركوا مليًّا أن الحلول لا تكون في التَّزمت بالأفكار ولا في التَّصلُّب بالمواقف، إنما بحوار بنَّاء مبني على الإقناع والإقتناع والأخذ بعين الاعتبار أن الظُّروف الحاليَّة التي استجدَّت على ضوء التَّحولات الجذريَّة التي شهدتها منطقة الشَّرق الأوسط على أثر عمليَّة طوفان الأقصى والحروب التي استجرَّتها تملي على الجميع السير في منحى تغييري من دون التَّخلي عن المُسلَّماتِ الوطنيَّةِ وبخاصَّة صون مقتضيات التَّلاحم الوطني وتغليب المصلحة الوطنيَّة العليا على أية اعتبارات فئويَّة.

وفي ظلِّ التَّفاوت الكبير في القُدرات العسكريَّة، وما يلقاه العدو الإسرائيلي من دعم غربي وأميركي غير محدود، لا بدَّ من تسخير كل الإمكانات الدُّبلوماسيَّة المُتاحة واستِغلال صداقاتِ لبنان لدى مختلف الجهات المؤثرة دوليًّا للضغط على العدو وإلزامه باحترام بنود اتِّفاق وقفِ إطلاقِ النار كما الإنسحاب من كامل الأراضي اللبنانية، هذا من جهة ومن جهة أخرى لا بدَّ من إعداد العدَّة للبدء بإعادة إعمار ما دمَّرته الحرب وتسهيل عودة النَّازحين إلى قراهم، بما في ذلك توفير ضَمانات دَوليَّة وأمميَّة تكفل عدم استهداف إسرائيل للمدنيين على غرار ما يحصل في غزَّة.

كما علينا الإقرار بأنه لكل مرحلةٍ زمنيَّةٍ ظروفها الخاصَّة التي تُملي على الدُّولِ اختِيار النَّمَطَ الدِّفاعِيَّ المُتناسِبِ مع قدراتها في سبيل الزَّودِ عن الوطن، وإن ما كان صالِحاً في العُقودِ الماضِيَة لم يعد يَصلُح بعد التَّغيّرات الجوهريَّة التي طرأت على السَّاحتين الدَّوليَّة والشَّرق أوسَطِيَّة، وأن الاستمرار في إنكار الحقائق يتيح الفُرص للعدو لإلحاق المزيد من الخسائر في الأرواح والممتلكات بلبنان وبالبيئة التي تبدي غيرتها على سلاح حزب لله.

قد تَشعُرُ الفئة المناصرةُ للحزب اليوم بشيء من القلق على السِّلاح الذي ترى فيه سنداً لها، إلَّا أنه عليها أن تستذكر ما ألحق بها سوء استعمال الميليشيات لأسلحتها من ويلات وخسائر بشريَّة وماديَّة فادحة طول الفترات الماضية، وعليها أن تدرك أن استمرار وجود السلاح خارج سيطرة أجهزة الدولة يجعل لبنان بأسره بما في ذلك البيئة الحاضنة رهينة هذا السِّلاح ويعرِّضُها ويعرِّضُ لبنان لعقوبات مالية وحصار اقتصادي، وأن الإنخرط في الدولة يحصِّنُ المُجتمع من أيَّةِ خيارتٍ متهوِّرة غير مجمع عليها، كما أن التَّخلي عن السِّلاح لا يعني الحرمان من التَّمثيل والمشاركة الفاعلة في الحياة السياسيَّة ولا يحدّ من النفوذ السياسي، بل سيكون له تبعاتٌ إيجابيَّة تُبدِّل النَّظرة إلى الحزب من نظرةٍ ميليشياويَّةٍ إلى حزب سياسي، وتُرسِّخ تأثيره الوطني وفق الأطر الديمقراطيّة، هذا عدا عن أن تسليم السِّلاح بحد ذاته انتصار سياسي للحزب فيما لو بادر إلى تسليمه طَوعاً بدلاً من نزعه أو تدميره كرهاً، ويُعفي مناصريه من شعور بالهزيمَة.

وعلى البيئة الحاضنة أن تُدرك أيضاً أن المُناداة بحَصريَّةِ السِّلاح لدى القوى النِّظاميَّة ليس موجَّهاً ضد أي مكوّن وطني، كما أنه ليس من قبيل التَّشفّي أو الإنتقاص من مكانته الوطنيَّة، ولا حتى من قبيل التَنكُّرً لدور المُقاومة وتضحياتِ المُقاومين، إنما يأتي في سياق مأسَسِة الدِّفاع عن الوَطنِ وحمايةِ مَصالِحه، وتتويجاً لكل التَّضحيات والإنجازات بغضِّ النَّظر عن الجهةِ التي حقَّقتها. وأن نقل السِّلاح من يد المقاومة إلى سواعد الجيش اللبناني، ما هو إلَّا نقلٌ لعبء الدِّفاع من جهةٍ شعبيَّةٍ إلى جهة دستوريَّة، وبالطَّبع لا يعني تجريد لبنان من عناصر قوَّتِه، ولا ينطوي على مسٍّ بالكرامةِ الوطنيَّة ولا تَخلٍّ عن واجِب الزَّود عن الوطن، لأن الجيش الذي يُجمِعُ اللبنانيون على مَناقبيَّتِه ودورِهِ الوطني، لم ولن يُفرِّط بالسِّيادة الوطنيَّة وبالتَّأكيد سيحافظُ على ما حقَّقته المقاومة من مُكتسبات.

إن حصر السِّلاح بالجيش ومختلف الأجهزة الأمنيَّة لا تشوبه شائبه لأنها قوى وطنيَّةً خالصة كون الضباط والعناصر هم من اللبنانيين الأقحاح ومن بيئات مُناهضةٍ للعدو الإسرائيلي، وإن إخراج السلاح من يد طائفة وتسليمه للجيش يجعل منه قوَّةً وطنيَّةً مجمعاً عليها؛ وإن عمليَّةَ تسليم السِّلاح لا بُدَّ من أن تحصل بالتزامن مع تبنّي خطَّةٍ إنمائيَّةٍ شاملةٍ، لأنه ليس بالسِّلاح وحده تُحفظُ الكرامات، إنما بالتَّنميةِ المُستدامَةِ وتحقيق العدالة والأمن لأفراد المُجتمع.

مخطئ من يربطُ كرامة مكوّن وطنيٍّ بحيازته السِّلاح خاصَّةً فيما لو كان التَّخلي عن السِّلاحِ لصالح الجيش الوطني، لأن الجيش والقوى الأمنيَّة يصونون كرامة جميع المواطنين بغض النَّظر عن انتماءاتهم الفئويَّة واعتقاداتهم الدينيَّة، وعلينا جميعاً أن ندرك أن الخَطر الحَقيقيَ يكمُن في وجودِ سِلاح غير شَرعي وآخر مُتفلِّت على نحوٍ يتعارضُ مع الأصول الدستوريَّة ومُقتضياتِ الأمن الجماعي.

كما أنه من الأهميَّةِ بمكان أن ندرك أن تمسُّكَ بعض سُكان المناطق الحُدوديَّة بسِلاح المُقاومة يردُّ لما سبق وعانوه من إهمال الدَّولة، واستنكافها عن القيام بأدنى واجباتها الدِّفاعيَّة والإنمائيَّة، إلَّا أنه ينبغي الإقرار أيضاً، بأن تغييب الأجهزة العسكريَّة عن بعض المناطق وإعاقتها عن القيام بوجباتها ساهم في ارتفاع مُعدَّلاتِ الجريمَة، وعزَّز من أنشطةِ الجماعاتِ الإجراميَّة، وجعل من بعض المناطق بؤرً غير آمنة يتحكَّم فيها الخارجون على القانون، ويسود فيها الإتجار بالممنوعات واختطاف الأشخاص وسرقة السيارات وشتى أنواع الجرائم القائمة على العُنف؛ وأنه لا بدَّ من تفعيل دور أجهزة الدَّولةِ في تلك المناطق بعد أن هُمِّش دورُها ردحاً من الزَّمن وليستعيد المواطنون الشعور بالأمان والإطمئنان.