لبنان دولة برلمانية ديمقراطية. في الأنظمة البرلمانية تكون الحكومة مسؤولة أمام مجلس النواب، والبرلمان هو مركز الحياة السياسية والتشريعية. لكن التجربة اللبنانية على مدى ثلاثة عقود تكشف أننا لا نعيش نظامًا برلمانيًا حقيقيًا، بل صيغة مختلفة تمامًا: نظام “رئيس البرلمان”، الذي تشكّل تدريجيًا حول شخص الرئيس نبيه برّي، وترسّخ بفعل ميزان قوى أملته هيمنة السلاح على الحياة السياسية والدستورية.
هذا التحوّل لم يبدأ فجأة. فبعد انتخابات 1992 وإطاحة الرئيس حسين الحسيني بطلب سوري واضح، وصل نبيه برّي إلى رئاسة مجلس النواب، ومنذ ذلك الحين لم تتغيّر قواعد اللعبة. تحوّل رئيس المجلس من موقع تنظيمي داخل السلطة التشريعية إلى لاعبٍ أساسي في تحديد مسار السلطة التنفيذية نفسها. ومع توسّع نفوذ “حزب الله” وسلاحه، بات رئيس المجلس محصّنًا بواقع سياسي يحول دون المسّ بموقعه أو بحدود نفوذه، مهما تغيّرت التوازنات داخل البرلمان.
يظهر هذا التحوّل بوضوح في المواقف والإجراءات التي أعلنها واتخذها مؤخرًا رئيس مجلس النواب نبيه برّي لمنع الحكومة من المبادرة التشريعية يعني عمليًا تحويلها إلى حكومة مستقيلة من دون إعلان، وتجريدها من أدوات الحكم، وإلغاء العلاقة الطبيعية بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.
المسألة الأخطر هي أن تفسير الدستور في الأنظمة الديمقراطية هو من صلاحية الهيئة العامة أو المجلس الدستوري، لا من صلاحيات رئيس البرلمان. لكن في لبنان، وبسبب غياب آليات واضحة في النظام الداخلي للمجلس، نجح رئيسه في تحويل رأيه الشخصي إلى قاعدة ملزمة، واحتكر جدول الأعمال، والتحكم بما يُناقش وما يُدفن. وهكذا صدر الموقف السياسي في ثوبٍ دستوري، ومن موقعٍ محصّنٍ بقوة سياسية عسكرية لا قدرة للمؤسسات على مواجهتها.
تدريجيًا، لم يعد رئيس المجلس مجرّد “رئيس سلطة تشريعية”، بل أصبح شريكًا إلزاميًا في تشكيل الحكومات، وفي هندسة التسويات، وفي التفاوض باسم الدولة، حتى في الملفات التي يحدد الدستور بوضوح أنها من صلاحيات رئيس الجمهورية أو مجلس الوزراء مجتمعًا. ومع الوقت صار “عرّاب الجمهورية”، كما وصفه أحد قادة “حزب الله”، وصار أي نقاش حول حدود دوره نقاشًا من دون نتائج، لأن قواعد اللعبة السياسية نفسها لا تسمح بتغيير المشهد طالما أن ميزان القوى على الأرض محكوم بسلاحٍ خارج الدولة.
هذا الواقع يفضح المفارقة الكبرى في الخطاب السياسي اللبناني: المشكلة ليست في النظام البرلماني نفسه. كثير من الدول تعتمد أنظمة برلمانية ناجحة ومستقرة. المشكلة في لبنان أن النظام اختُزل بشخص واحد، وأن المؤسسات تُدار وفق ميزان قوة يفرضه السلاح، لا الدستور. تحت غطاء “البرلمانية”، نشأ نظام شخصاني، حيث الرئيس بري ليس حكمًا بين السلطات، بل هو شريك فيها، ومرجع فوقها، وممسك بمفاتيحها.
إعادة بناء النظام البرلماني الحقيقي في لبنان تبدأ باستعادة التوازن بين السلطات، وتحرير البرلمان من الشخصنة، ووضع حدّ لتحويل رئاسة المجلس إلى موقع فوق دستوري. لكن ذلك لا يمكن أن يتحقق في ظلّ استمرار هيمنة السلاح على الحياة السياسية، لأن أي إصلاح دستوري يفترض أساسًا وجود دولة كاملة السيادة. ما لم ينتهِ زمن “رئيس البرلمان” الذي أنتجه السلاح، سيبقى النظام اللبناني مجرّد نص جميل لا يُطبّق، وبرلمانًا معطّل الصلاحيات، وحكومة محكومة بالفيتو، ودستورًا يُفسَّر على قياس من يملك القوّة لا من يملك الشرعية.