IMLebanon

المباغتة الأحدبية والمفاجأة الأشريفية

في ظل أجواء الدهشة الصادمة لأطراف كثيرين التي أسفرت عنها الانتخابات البلدية في لبنان وبالذات ما يتعلق بالمفاجأة التي حدثت في مدينة طرابلس ثاني المدن الكبرى في لبنان٬ المتواضع مساحة المتخم أحزاًبا مجَّيرة في معظمها لأطراف خارجية على حساب الوطن٬ وهي حالة تكاد تكون غير مسبوقة وينفرد بها لبنان.. في ظل هذه الأجواء وكيف أن لا حديث للناس إلا عن نفرة بيروتيةُسنية ذات دلالات وعن يقظة شيعية في بعض المناطق فاجأت «حزب الله» و«حركة أمل» وعن تعديل جذري في التوجه الُسني الطرابلسي أسفر عن ولادة قطب سياسي مهم اسمه أشرف ريفي (كما مفاجأة انتخاب باراك أوباما قبل ثماني سنوات رئيًسا للولايات المتحدة)٬ حدث اختراق أمني يتمثل في تفجير عبوة أمام مقر أحد أهم المصارف النشيطة في لبنان والمسمى «بنك لبنان والمهجر» الذي يترأس مجلس إدارته القطب المصرفي السوري سعد الأزهري.

لم يعلن «حزب الله» أنه هو الفاعل. كما لا أحد أعلن مسؤوليته ولكن المفردات ا«تويترية» لمحازبين من «حزب الله» تزامنت مع حدوث التفجير أوحت بأن التفجير من ِفْعل الحزب الذي يخوض منذ أسبوعْين مواجهة كلامية لا تخلو من الحدة مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لأنه ملتزم بقرار مالي أميركي يستهدف حسابات مصرفية لأشخاص ومؤسسات تابعة للحزب الذي يستقوي عدا السلاح والغطاء المسيحي الماروني في شخص التيار الذي يتزعمه الجنرال ميشال عون٬ بأن المال الشيعي في المصرف المركزي يتجاوز الخمسين مليار دولار. وتلك ورقة مهمة في يد الحزب إذا هو طلب من أصحاب المال الشيعي سْحب أموالهم. لكن الأهمية في حال حدث ذلك تصبح مشكلة بالغة التعقيد؛ إذ إن المصرف المركزي يعطي أصحاب المال شيكات بالمبالغ الدولارية بطبيعة الحال٬ لكن ماذا سيفعل هؤلاء بهذه «الشيكات» التي ستنتهي في نيويورك٬ حيث لا يمكن صْرفها ولا تحويلها إلا بعد موافقةُسلطة المال الدولاري الأميركية عليها؟

مشكلة «حزب الله» في هذا الشأن بالغة الصعوبة ولا ينفع فيها الشأن الأخير الذي بيد الحزب٬ أي قوة امتلاك السلاح العادي والصاروخي الذي بسببه يعيش لبنان أزمة اختلال مقلقة في موضوع الرئاسة٬ حيث إن البلد دخل سنته الثالثة وهو من دون رئيس للجمهورية فيما هنالك رئاسة شيعية مستقرة (رئاسة البرلمان) ورئاسةُسنية مرتبكة )رئاسة الحكومة) مصير استمرارها رهن برضا «حزب الله» وحجم مشاركته فيها.

ما يعنينا هنا هو ما يتعلق بالمفاجأة الصادمة التي أفرزت مركز قوةُسنًيا وهو أمر طارئ على الطائفة٬ حيث إن ما قبل نجومية أشرف ريفي هو تماًما غير ما ستكون عليه أحوال الصف الُسني في لبنان. زيادة في التوضيح يمكن القول إن أشرف ريفي الذي خاض السباق البلدي في طرابلس وهو وزير عدل مستقيل غير مقبولة استقالته ومتحفظ على بعض خيارات التيار السياسي المنتمي إليه وهو «تيار المستقبل» ربما يتفاجأ اللبنانيون٬ إنما بعد أن تنتهي لعبة تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية ويتم التوافق على أحدهم رئيًسا٬ بأن رئيس الحكومة في المرحلة المقبلة سيكون أشرف ريفي.

في حال حدث ذلك يكون الرجل كوفئ فلا يصيبه ما سبق أنُمني به أيًضا قبل أربعين سنة ابن طرابلس الآخر عزيز الأحدب. وكلاهما من نجوم المؤسسة العسكرية ­ الأمنية.

في شهر مارس (آذار) من عام 1976 وكان لبنان دخل السنة الثانية من الحرب الأهلية٬ أو حرب الآخرين فيه وعليه٬ التي بدأت يوم الأحد 13 أبريل (نيسان) 1975 حدث الآتي: تم إطلاق النار من مسيحيين مسلحين في حي مسيحي اسمه «عين الرمانة» على «أوتوبيس» كان يقل فلسطينيين عائدين من مشاركتهم في مسيرة نَّظمْتها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ­ القيادة العامة» التي يتزعمها أحمد جبريل بمناسبة الذكرى الأولى لعملية فدائيةُعرفت «عملية الخالصة» ونستغرب مرور «الأوتوبيس» في هذا الحي رغم معرفة القيادة الفلسطينية الجبريلية بالحساسية المسيحية من الفلسطينيين وتدخلاتهم (وهذه قصة طويلة).

تسبب إطلاق النار بغزارة في مقتل 26 شخًصا. وكانت تلك الحادثة بمثابة شرارة أو عود كبريتُرمي على حقل مليء ببراميل النفط. اندلعت المواجهات وانقسم البلد شر انقسام سياسي وحزبي وطائفي. لكن الأكثر خطورة كان انقسام الجيش اللبناني جيشْين ثم «جيوًشا» صغيرة إلى جانب «جيش لبنان العربي»٬ وبذلك لم يعد هناكَمن هو قادر على محاصرة الانقسامات التي بدأت تهدد الكيان ومطالبة رئيس الجمهورية بالاستقالة (زمنذاك) سليمان فرنجية (جد سليمان الحفيد الذي رَّشحه القطب الأقوى الُسني سعد الدين رفيق الحريري لرئاسة الجمهورية. (القصة أيًضا طويلة ومعَّقدة).

وسط هذه الفوضى الشاملة لبنان من أقصاه إلى أقصاه٬ واتساع القلق الشعبي على الحياة وعلى الكيان وعدم تجاوب رئيس الجمهورية مع المطالب بالاستقالة٬ فضلاً عن قصف مقر رئاسة الجمهورية بقذائف صاروخية٬ وذلك لإجبار الرئيس فرنجية على الرحيل٬ فوجئ اللبنانيون الذين كانوا ينتظرون بفارغ الصبر النشرة الإخبارية من التلفزيون في الثامنة والنصف مساء علَّها تحمل إليهم ما يهدئ روعهم٬ بالمذيع ينفي ما أُشيع عن الاستقالات الثلاث (رئيس الجمهورية٬ رئيس الحكومة٬ ووزير الداخلية) ويعرض مشاهد لخروج أعضاء وفد سوري برئاسة عبد الحليم خَّدام بعد اجتماع في القصر مع رئيس الجمهورية سليمان فرنجية الرافض الاستقالة. ثم فجأة يظهر على الشاشة دون سابق إشارة ضابط بزيه العسكري وكامل أوسمته وبدأ بعد ثوان من الارتباك يتلو بياًنا كان أشبه بدوي قنبلة. كان هذا الضابط هو العميد أول الركن عزيز الأحدب ابن مدينة طرابلس ومن عائلة معروفة تجارًيا وسياسيا (كما اللواء أشرف ريفي الذي شغل قبل إحالته إلى التقاعد منصب مدير عام الأمن الداخلي). صاحب سمعة طِّيبة. وصل مباغًتا إلى مبنى محطة التلفزيون توقيًتا مع نشرة الأخبار. قرأ البيان الذي أعاد إلى الأذهان صيغة «البلاغ رقم واحد» للانقلابات العسكرية التي ازدهرت في الخمسينات والستينات في سوريا وكان آخرها الانقلاب الذي قام به داخل حزب «البعث» اللواء حافظ الأسد الذي بات بعد ذلك برتبة فريق.

جاء البيان الذي تلاه العميد أول الركن عزيز الأحدب وبتوقيعه «قائد منطقة بيروت والحاكم العسكري المؤقت» في ثلاثة عشر بنًدا أولها الطلب من الحكومة (التي يترأسها ابن طرابلس أيًضا رشيد كرامي) تقديم استقالتها خلال 24 ساعة وإلا اعتبرت بحْكم المستقيلة٬ وثانيها الطلب نفسه من رئيس الجمهورية٬ وثالثها الطلب من جميع القطاعات المدنية والعسكرية تأييد حركته الإصلاحية٬ ورابعها إعلان حالة الطوارئ في البلاد ومْنع التجول في بيروت حتى إشعار آخر٬ وخامسها دعوة مجلس النواب خلال سبعة أيام إلى انتخاب رئيس جديد للبلاد. وبعد أن يؤيد العميد أول عزيز الأحدب المبادرة السورية والالتزام بالاتفاقيات السابقة المعقودة «بين السلطة اللبنانية وإخواننا الفلسطينيين» وأن الجيش «سيلتزم بحماية الرئيس سليمان فرنجية مدى الحياة» يختم «البلاغ رقم واحد» بعبارة تضمنت مفردات سبق التزام مماثل بها في التوجه من جانب المشير عبد الرحمن سوار الذهب في السودان ببضع سنوات. والعبارة هي: «أُعلن منذ الآن أنني لست طامًعا بالُحْكم ولا أؤمن بالُحْكم العسكري إلا كوسيلة لإنقاذُحْكم متدهور. لذلك قررُت الاحتفاظ بمركزي الطبيعي كقائد لمنطقة بيروت وسأسلم أمانة الُحْكم إلى أصحابها فور انتخاب الرئيس الجديد..».

لمجرد انتهاء العميد أول عزيز الأحدب من إلقاء بيانه لعلع الرصاص ابتهاًجا بالمباغتة التي قام بها. وكان واضًحا أنه انتظر مغادرة عبد الحليم خدام بيروت عائًدا إلى دمشق لكي يعلن خطوته.

بطبيعة الحال لم يرتح رموز العمل السياسي إلى ما فعله العميد أول عزيز الأحدب٬ كما أن النظام السوري الذي يضمر احتواء لبنان ووْضع اليد على إرادته وقراره لم يرحب هو الآخر. في المقابل كان الترحيب من جانب الناس والفعاليات الاقتصادية ملحوًظا. بعد ثلاثة أيام وفيما الجدل الناشئ عن حركة الأحدب يزداد أعلن مجموعة من الضباط المسيحيين الموارنة تأييدهم لحركة زميلهم العميد أول عزيز الأحدب وبذلك اكتسبت الحركة صفة التنوع الطائفي وتراجعت بعض الشيء التحفظات حول أن الأحدب من السنة.

خطوة خطوة كان الدخول السوري إلى الحالة اللبنانية التي ازدادت تشقًقا. وشيًئا فشيًئا بدأ الأمل المعقود على الحركة التي قادها العميد أول عزيز الأحدب يتراجع. جاء صقر وخطف طريدة على قد الحال. بل جاء الأسد وافترس الصيغة الأحدبية التي كان التحسر من جانب الناس على انطفائها شاملاً.

بعد أربعين سنة نجد اللبنانيين وبالذات المغلوب على أمرهم٬ ولا نبالغ إذا قلنا إنهم الأكثرية٬ يقولون في مجالسهم: يا ليت محاولة عزيز الأحدب استقرت وجاء بعده من يستنسخها في حاضرنا المزري٬ فما نكابده من أهل السياسة والأحزاب يحتاج إلى «بلاغ رقم واحد» بمفردات أحدبية. على الأقل إلى أن يهدي الله المعِّطلين اللاهين والساهين عن واجباتهم تجاه الناس٬ إلى سواء الصواب والتعقل والحرص على مصير البلاد وأمور العباد.

وأما اللواء أشرف ريفي فإنه كما كل عسكريي العالم الثالث حقق التغيير مستحضًرا ما يفعله عادة أصحاب الانقلاب على أشخاص أو حالات في ظروف تحتاج إلى مبادرين شجعان. ولأنه خارج الخدمة العسكرية فإنه استحضر الموضوع البلدي.. واجتاز الميل الأول من رحلة طويلة.