لا يستغربنّ أحد ما يحصل في سوريا بعد انهيار المنظومة الأسدية وما يجري في السويداء وما يجري في لبنان في ما يتعلق باستعادة مركزية الدولة. إنه واقع معبّر عن غياب شبه تام في الذهنية اللبنانية والعربية عامة حول مفهوم الدولة بالذات ونشوئها في أنتروبولوجيا التاريخ والقانون. لم يتم اطلاقًا شرح نشوء الدول العربية لا في كتابة التاريخ العربي ولا في شرح الوحدة الوطنية بالعمق وبدون شعارات.
لدى عرض لسياق بناء الدولة في أنتروبولوجيا التاريخ والقانون في جدلية المركز والأطراف وانضمام الأطراف إلى مركزية الدولة، وانطلاقًا من مؤتمر اليونسكو سنة 1970 حول “سياق نشوء الأمم في بلدان متعددة” أجابني أحد المؤرخين اللبنانيين المعروفين: “هذا رأي!” وخلال اجتماع ضم خبراء طرح موضوع لبنان الدولة في جيش واحد لا جيشين. أجاب أحدهم: ولماذا لا نباشر بالإصلاحات؟ هل الإصلاحات ممكنة وذات فعالية بدون دولة وفي حالة صراع مع دولة رديفة تمارس سلطة موازية بفضل شبكات مصالح وأتباع؟ خلال اجتماع آخر أورد أحد المؤرخين المعروفين المخاطر التي تهدد لبنان في ما يتعلق بالوضع الاقتصادي ولجوء السوريين والديموغرافيا… قلت له: من يواجه كل هذه المخاطر؟ أعاد تكرار المخاطر وكأني غير مدرك لها وكأن المخاطر تتم مواجهتها بالاعتراض والنضال الشعبي والبيانات والإضرابات…!
أمضت مراكز بحثية عديدة في المنطقة العربية سنوات دفاعًا عن “الوحدة العربية” و”الفكر العربي”… بدون الولوج في البُعد الثقافي والتاريخي التأسيسي لوحدة الكيانات العربية في نشوئها. إن الوحدات العربية هي أساسًا نقيض وحدة الكيان الصهيوني المصطنعة والمهددة دائمًا بالتفكك من الداخل بسبب أيديولوجية الدين والمساحة الجغرافية espace identitaire. المثال الأبرز والنموذجي لبنانيًا، الذي لا يتم شرحه وكتابته في كتابة تاريخ اللبنانيين، هو إعلان دولة لبنان الكبير في أول أيلول 1920 حيث انضمت الأطراف والجماعات إلى مركزية الدولة. قبل هذا التاريخ لم يكن لبنان دولة بل إمارات وإقطاعيات تابعة للدولة العثمانية
استغرق نشوء الدولة في الغرب أكثر من مئتي سنة كما يشرحه
Norbert Elias, La dynamique de l’Occident, Pocket, no 80, 1969, 320 p.
وفي فرنسا لم يكن ملك فرنسا قبل لويس الرابع عشر واقعيًا إلا ملكًا في باريس. في الأطراف الفرنسية سابقًا إمارات وإقطاعيات تسعى إلى الحماية الذاتية. تعود وحدة الدولة في فرنسا إلى أعمال Richelieu في امتداد المركز إلى كل الأطراف. وعلى أثر اختراع المدفع المتطوّر وحرب الثلاثين سنة أصبحت الأطراف بحاجة إلى مركزية الدولة.
1. التمييز بين الدولة والنظام: يخلط قانونيون – ولا نقول حقوقيوين – ومثقفون بدون خبرة بين الدولة والنظام Etat et régime politique. لا توصف الدولة إلا بذاتها in se في وظائفها السيادية الأربع الملكية rex, regis, roi وهي: احتكار القوة المنظمة أي جيش واحد لا جيشين، واحتكار العلاقات الدبلوماسية أي دبلوماسية واحدة وليس دبلوماسيتين، وإدارة المال العام من خلال فرض الضرائب وجبايتها، وإدارة السياسات العامة.
عندما نتكلم عن دولة القانون، ينساق قانونيون في الكلام عن القانون في حين يتوجب وجود دولة أولاً “في سبيل فاعلية القانون لأن الدولة هي المولجة بتطبيق القانون”. الدولة والقانون في أنتربولوجيا التاريخ والقانون يتحققان في مرحلتين متباعدتين غالبًا. في مرحلة أولى تمتد سلطة المركز centre إلى كل الأطراف في سبيل وحدانية السلطة ومركزيتها. وتتحقق في مرحلة ثانية الدسترة لكي تكون الدولة خاضعة لسلطة القانون.
تنتشر مداولات حول إعادة ترسيم المنطقة ومراجعة اتفاقيات سايكس بيكو. وتمتد اضطرابات في السويداء في سوريا وغيرها وتستمر سجالات اجترارية عقيمة لبنانيًا حول إصلاحات مستحيلة بدون دولة ومع استمرارية مقاومة فئوية بدون إدراك الواقع التاريخي والبراغماتي والحياتي اليومي لوحدة الكيان اللبناني ووحدة كيان سوريا.
لم يتم اطلاقًا مثاقفة مفهوم الوحدة في الذاكرة العربية في سبيل بناء مناعة المجتمعات. تحظى مجتمعات عربية عديدة بحكّام مستنيرين ولكن إذا حصلت كوارث طبيعية أو اضطرابات قصوى أو تغيرات جوهرية قد تعود هذه المجتمعات إلى بدائيتها وقبليتها البدائية في حال عدم تجذر ثقافة الدولة ونشوئها ومركزيتها في التاريخ الوطني والذاكرة المشتركة.
2. بدائية وقبلية الإدراك العربي: صدرت مؤلفات عديدة عربيًا حول التطوّر التاريخي للأنظمة العربية مع الخلط بين نشوء الدولة أولاً وأساسًا وتنظيمها الدستوري. إن مساعي الهيمنة على المنطقة العربية من خلال إنشاء دول رديفة مسلّحة، في لبنان وسوريا والعراق واليمن… برعاية ما يسمى “حرس ثوري”، وليس جيشًا وطنيًا، هو معبّر عن بربرية سلوكية وتخلف حضاري خارج منطق التاريخ
صدر كتاب لـ Raphael Pataï بعنوان: The Arab Mind، 1983 حيث يرد شرح لبدائية متمادية نقيضًا لعراقة التراث العربي في كل المجالات. أما المجال الأضعف فهو المتعلق بالدولة بالذات ووحدة الكيانات في نسيجها الاجتماعي طوال قرون. ما تكرره جهة سياسية في لبنان: “عندما تصبح الدولة قوية في لبنان نسلّم سلاحنا”، هو معبّر عن الواقع في علم النفس العيادي حول حالة مرضية وهو جهل مفهوم الدولة التي هي قوية بدعم الناس لها وشرعيتها légitimité.
أما الدولة الشقة المفروشة مع مفاتيحها فهي دولة محتلة لا وطنية.
ورد في كلام الموفد الأميركي توم براك في 23/7/2025 أمثولة لتلامذة حضانة في مفهوم الدولة: “أنا أطلب حصر السلاح، بل ثمة قاعدة أن هناك مؤسسة عسكرية واحدة وعلى لبنان أن يقرر كيف سيطبّقها”.
عضو المجلس الدستوري، 2009-2019