IMLebanon

«الطبقة المهيمنة» تعيد تجميع نفسها… لمواجهة «سلطة الشارع»

 

 

يمكن مراجعة خطابات رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في ذكرى 14 شباط، كما شخصيّات الصف الأول في الاحتفال، لتكوين صورة واقعيّة عن العلاقات التي بناها واتجاهاته السياسية المتقلبة، منذ تسلّمه رئاسة الحكومة ثلاث مرات وخروجه راهناً من السلطة. لكن مواقف الحريري تعطي أيضاً صورة أشمل للتحالفات التي ارتسمت بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وشكلت العمود الفقري للبلد حتى التسوية الرئاسية قبل ثلاث سنوات.

 

تشبه اللحظة الآنية التي مهّد لها الحريري منذ أيام في تصويبه على رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والتيار الوطني الحر، لحظة ما بعد 14 آذار التي نمت تدريجاً بعد 14 شباط، وصولاً الى انتخابات عام 2005. ليست استعادة فحسب لفكرة التحالف الرباعي التي يبدو أنها ظلّت تخيّم على عقل الحريري وعلى بعض فريقه، وتحكّمت به قبل التسوية الرئاسية وبعدها، بل أيضاً اتجاه الى تسوية قائمة على تكاتف أفرقاء التحالف أنفسهم في وجه مجموعة تحديات، قد يكون الشارع المنتفض ضدهم أولها. فالمشهد الحالي يقارب تماماً ما حصل قبل 15 عاماً، وخطاب الحريري، الفاقد بوصلته الإقليمية والدولية، بات محصوراً حالياً بالتيار الوطني، مستعيداً أدبيات مرحلة ما بعد الاغتيال، التي حفلت بشتى أنواع النعوت والهجومات المتبادلة، وأسست لافتراق سياسي حادّ، ظل قائماً إلى حين عقدت اجتماعات باريس وأنجزت التسوية الرئاسية. عام 2005، لم يكن حزب الله مستهدفاً من جانب المستقبل، لا بل هادنه الحريري، وأسّس مع الرئيس نبيه بري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط لتفاهم أبعد عنه حلفاءه من القوات اللبنانية الذين وقفوا معه في ساحة الشهداء، مبقياً على علاقة سويّة معها. في المقابل، كشفت تلك المرحلة أولى بوادر نموّ العلاقة، التي أسفرت لاحقاً عن تفاهم ثنائي، بين حزب الله والتيار الوطني الذي تشارك خصومة متجددة مع القوات اللبنانية، بعد عودة العماد ميشال عون من المنفى وخروج الدكتور سمير جعجع من السجن.

طوال أربعة عشر عاماً، تقلّب الحريري في مواقفه، تارةً يشدّ عصب جمهوره بشنّ هجوم على حزب الله، وطوراً يحوّل الذكرى لصبّ غضبه على التيار الوطني أو تنفيس احتقانه ضد القوات اللبنانية الى حد القطيعة، وهو تارةً يفترق عن جنبلاط، وطوراً يلتقيان على أصغر تفاصيل التنسيق في ملفّات سياسية حساسة. لكنه وصل اليوم الى نقطة الذروة في العودة مجدداً الى المربع الأول، فيعيد عقارب الساعة الى الوراء مجدداً، ويكرّس منذ ما قبل خروجه من السرايا الحكومية، مهادنته لحزب الله، وتنشيط علاقته ببري وجنبلاط، في مقابل نقمته على التيار. بدوره، يذهب جنبلاط أبعد من الحريري في مطالبته باستقالة رئيس الجمهورية، كما فعل سابقاً مع المطالبة باستقالة الرئيس إميل لحود، وهو مطلب رفضته آنذاك بكركي، كما مكونات 8 آذار، ليضع على الطاولة تحدياً جديداً في مقارعته لعون الى أبعد حدّ، ويبقي نفسه على مسافة من القوات، من دون أن يقطع معها خيط التواصل. وفي المشهد المتكرر، وفي ظل تشرذم المستقلّين، يقف المسيحيون على هامش اللعبة الداخلية، رغم استعادتهم لحضورهم في السلطة، في ظل انفراط المصالحة بين القوات والتيار، والتحالفات المهتزة بين القوات وحلفائها، رغم أن لا إجماع لدى جمهور الحريري على تأييد موقفه منها. في المقابل، يتخبّط التيار بعدما انكسرت صورة العهد القوي، وعاد المسيحيون الى الوراء، ليفقدوا مرة أخرى عنصر المبادرة، فضلاً عن غياب تام لدور بكركي.

يكاد المشهد يكون نفسه، لولا ما حصل في 17 تشرين الأول ولا يزال مستمراً بأوجه مختلفة. فهذه المجموعات الشبابية والصامدة في وجه العنف الأمني المتكرر عليها، لم تكن في غالبيتها ممثلة في مرحلة 2005. ومن كان فيها، خرج منها الى مساحة أوسع. ولم يعد ممكناً القفز فوق هذه الشريحة مهما كانت قوة الخطابات والتحالفات التي تتبدّل وفق التسويات المرحلية. فالشارع، بالمعنى البارز الذي شهده لبنان يومذاك بين تظاهرات 14 آذار و8 آذار، لم يتمكن من أن يفرز خارج الاصطفاف شخصيات شابة مثقفة وواعية وخارجة عن النمط التقليدي للأحزاب كما يحصل اليوم، ولا سيما أن هذه الشريحة تحاسب ــــ من جملة عناوين أخرى ــــ سياسة اقتصادية ومالية، يحاول الحريري تبريرها، منذ عام 1990 وما بعد 2005 وحتى التسوية الرئاسية.

ثمة قراءة غربية حيال ما يجري من تظاهرات وما رافق تشكيل الحكومة، بصرف النظر عن إمكاناتها والملاحظات على تسمية القوى الأساسية لوزراء فيها. إذ يبدو لافتاً بالنسبة إليها أن الطبقة المهيمنة، سياسياً ومالياً، تعي تماماً مدى الخطر المحدق بها، وانعكاس التظاهرات سلباً عليها، مهما كابرت. فمجرد قيام هذه القوى حتى اللحظة الأخيرة بمحاولات حثيثة لاستعادة حضورها بحكومة سياسية صافية، ومن ثم إطلاق متجدّد لمسارها السياسي، فهذا يعني أنها أصيبت في مكان موجع. وبمجرد التراجع الى الخلف قليلاً، فهذا يعني أنها استوعبت حجم السلبيات التي تؤثر عليها. لذا، تُفهم محاولتها، من الآن وصاعداً، تجميع نفسها، حتى لو اقتضى الأمر إعادة تكوين تحالفات هجينة أو تفاهمات بالحد الأدنى، لأن مصلحتها الآنية تنشيط صفوفها الحزبية وتعزيز تماسكها في مواجهة «سلطة الشارع»، مهما كلفها الأمر.