دار الفتوى مرجعية وطنية جامعة
قبل إعلان دولة لبنان الكبير، لم يكن قد إستحدث منصب مفتي الجمهورية اللبنانية، بل كانت المرجعية الدينية والروحية للمسلمين مناطة بمفتي بيروت، وتأكيداً على ذلك، أنه في العام 1920، شارك مفتي بيروت الشيخ مصطفى نجا في حفل إعلان لبنان الكبير في مقر المفوض السامي في «قصر الصنوبر» في بيروت، مع الإشارة إلى رفضه بأن يعيّن مفتياً للجمهورية اللبنانية، حيث كان يوجد ترابط بين المرجعيتين الإسلاميتين في كل من بيروت ودمشق، مع تمسّكه بلقبه «المفتي الأكبر لبيروت»، الذي حصل عليه من السلطان العثماني.
إلّا أن سلطة الإنتداب الفرنسي أرادت إيجاد مرجعية دينية من خلال منصب قاضي القضاة الى أن استقرّ الرأي بمنحه لمفتي بيروت بعد صدور المرسوم رقم 291 بناء على القرار رقم 56 و55 الصادرين بتاريخ 9 أيار سنة 1932 من المفوض السامي للجمهورية الفرنسية، الذي نص على اعتبار مفتي بيروت مفتياً للجمهورية اللبنانية، حيث كان الشيخ توفيق خالد أول من تولّى منصب الإفتاء سنة 1932، بعد وفاة الشيخ مصطفى نجا.
فكان الشيخ توفيق خالد أول مفتي رسمي مستقل وابتدأ منذ توليه منصب الإفتاء الى تنظيم الأمور الدينية والوقفية والى تأسيس أول مجلس شرعي وإنشاء الكلية الشرعية وتسميتها بأزهر لبنان لتخريج علماء الدين، وإيجاد مقر لدار الفتوى في منطقة عائشة بكار وهو المقر الحالي، الى أن خلفه على الإفتاء الشيخ محمد علايا الذي صدر في عهده أول نظام ديني للإفتاء بالمرسوم الإشتراعي رقم 18 لسنة 1955، الذي بموجبه تم إنضواء دار الإفتاء تحت مظلة رئيس مجلس الوزراء اللبناني.
ومنذ ذلك الحين، أطلقت لدى المسلمين السنّة القاعدة «الذهبية»، بأن مرجعيتهم تتمثل برئاسة الحكومة ودار الفتوى وجمعية «المقاصد».
وقد نجحت دار الفتوى، لا سيما في أحلك الظروف، وبإرادة وطنية جامعة، وبتصميم قوي، في إنتاج صيغة فريدة ومميّزة حفظت للبنانيين مسلمين ومسيحيين إستقلالهم وعروبتهم، كما نجحت في تجديد هذه الصيغة عند كل المنعطفات.
وفي هذا الإطار استقطع بعض ما كتبه الدكتور يحيى أحمد الكعكي الذي واكب مسيرة دار الفتوى فترة طويلة من الزمن، حيث كان من أقرب مستشاري المفتي الشهيد حسن خالد، ومن ثم المفتي محمد رشيد قباني، والذي كان له دوراً بارزاً في تنصيب المفتي عبد اللطيف دريان، حيث يقول: «دار الفتوى، هي دار اللبنانيين جميعاً في وطنيتها، وعدم تقوقعها الطائفي المذهبي في نطاق ما يُسمّى «أقليات»..
«وأنها كانت كذلك منذ ١٩٣٢ مع مفتي الجمهورية الأول محمد توفيق خالد (1874/1951) في المنصب ١٩٣٢ حتى وفاته ١٩٥١، الذي شيّد هذه الدار، كما كانت دارا للمواطنة في عهد المفتي الشهيد حسن خالد (1921/1989) في المنصب ١٩٦٦ حتى وفاته إغتيالًا في 16/5/1989، حيث مرّت في أصعب الظروف التي عصفت بلبنان في سنوات الحرب القذرة (1975/1989)، وخصوصاً ما بين (١٩٨٣ و١٩٨٩)، وبقيت، وستبقى الملاذ الباقي لـ «المواطنة اللبنانية» في هذه الأيام السوداء النحسات، التي يمرّ بها الآن «ما تبقّى من وطن؟ كان إسمه لبنان، قبل العهد الجهنمي…».
واللافت للاهتمام أن رجال الدين السنّة الذين حاولوا أداء أدوار سياسية واسعة، تعرّض أكثرهم إلى الاغتيال، وأبرزهم المفتي حسن خالد الذي لا يزال المفتي الأكثر انخراطا في الشأن العام طوال تاريخ المفتين في لبنان، وهو ما وضعه في مواجهة مع كثير من القوى المسيطرة على الساحة السنيّة وصولا إلى اغتياله بعبوة ناسفة ضخمة استهدفت سيارته في 1989.
لقد أدرك المفتي الشهيد الخطر الداهم على لبنان، والمصدر الحقيقي لهذا الخطر، والدور الشيطاني الذي كانت تؤدّيه أدواته في تأجيج الحروب المتنقلة بين المناطق كافة، تمهيداً لتغيير وجهة ووجه الوطن، وسلبه سيادته وإستقلاله، وتحويله إلى مجرد مقاطعة تابعة تحت الوصاية، تُحكم عن بُعد!!!
وما زاد من قناعته بضرورة وحتمية الوقوف والتصدى بصلابة وإيمان الرجال الرجال لكلّ المشاريع والمؤمرات المعادية للبنان الوطن والدولة، تغيّيب القامات الوطنية إمّا تصفية واغتيالاً، وإمّا إبعاداً، لتفريغ الساحة اللبنانيّة منهم، واستبدالهم بأمراء الحرب وبمنظومة القتل والإجرام الدموي، لتتحكّم بمقدرات الوطن، وجرّه إلى الهيمنة والتبعية!
ومن موقعه الوطني الجامع، كمفتٍ للجمهورية اللبنانية، وليس للطائفة السّنيّة فحسب، عقد العزم على أخذ المبادرة بالوقوف سدّاً منيعاً في وجه ما كان يحاك للبنان، غير آبه لكلّ التهديدات والنصائح التي تلقّاها من الأعداء والأصدقاء، حيث كان يجيب دوماً أنه يريد أن يقابل وجه ربّه بقلب سليم.
فحوّل المفتي الشهيد من خلال دوره ومواقفه مقام دار الإفتاء إلى دار وطنية جامعة، بعيداً عن التقوقع الطائفي والمذهبي، في أصعب ظروف الحرب والتقاتل الطائفي، إيماناً منه بحتمية إستعادة لبنان الواحد بجناحيه الإسلامي والمسيحي، ضمن وطن واحد يقوم على مرتكزات الوحدة الوطنية والعيش المشترك والإنتماء العربي.
ومن هذا المنطق دعا إلى قمة إسلامية جامعة في دار الفتوى بتاريخ سنة 1983، والتي صدر عنها «الثوابت العشر»، التي شكّلت لاحقاً المنطلقات الأساسية لإتفاق «الطائف».
و جاء في تلك الثوابت:
أولاً: لبنان وطن نهائي بحدوده الحاضرة المعترف بها دولياً، سيداً، حرّاً، مستقلاً، عربياً في انتمائه وواقعه، منفتحاً على العالم وهو لجميع أبنائه، لهم عليه واجب الولاء الكامل ولهم عليه حق الرعاية الكاملة والمساواة.
ثانياً: لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريّات العامّة وضمانها، وعلى مبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين جميع اللبنانيين من دون تمييز.
ثالثاً: يلتزم لبنان النظام الاقتصادي الحر.
رابعاً: إعطاء القضايا الاجتماعية حقها الكامل في العناية بما يؤدي إلى إلغاء التفاوت بين المناطق والفئات اللبنانية ومعالجة المعضلات الناتجة من الأزمة.
خامساً: إن التمسّك بلبنان متلازم مع التمسّك بوحدته الكاملة غير المنقوصة، أرضاً وشعباً ومؤسسات.
سادساً: رفض أيّ شكل من أشكال اللامركزية السياسية سواء طرحت في صيغة الكونفيديرالية أو الفيديرالية، أو الاتحاد بين ولايات، أو كانتونات، أو غيرها من أشكال الكيانات الذاتية، لأنّ كلّ هذه الطروحات وأمثالها تضع لبنان على شفير التقسيم والتفتيت، وكلاهما مرفوض رفضاً مطلقاً، بينما نرحّب باللامركزية الإدارية.
سابعاً: إلغاء الطائفية السياسية بكلّ أوجهها في جميع مرافق الدولة ومؤسساتها.
ثامناً: الرفض القاطع لكلّ ما يتعارض مع الشرعية من مظاهر وممارسات بما في ذلك محاولات الهيمنة الحزبية أو الفئوية، وكذلك استمرار وجود الميليشيات والتنظيمات المسلحة ووسائل الإعلام غير الشرعية والجبايات المالية غير المشروعة.
تاسعاً: الإقرار بحق المهجرين منذ بداية أحداث 1975 بالعودة إلى المساكن، أو المناطق التي هجروا منها تبعاً لمبدأ حقّ كلّ مواطن بالإقامة في أيّ مكان في وطنه لبنان.
عاشراً: العمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتأمين انسحاب جميع القوات غير اللبنانية من لبنان، وفقاً لقرارات مجلس الأمن 425 و426 و508 و509 و520، ورفض أيّ محاولة لفرض معاهدة صلح أو تطبيع علاقات مع إسرائيل.
رغم كل المتغيّرات والتقلّبات والأحداث والتطورات التي شهدها لبنان منذ الإعلان عن «الثوابت العشر» لدار الفتوى، التي شكّلت بالنسبة لها كمرجعية وطنية جامعة للبنانيين مسلمين ومسيحيين، ورغم حجم الإستهداف الذي يتعرض له السنّة في لبنان، جراء تمسّكهم بتلك المبادئ، تبقى دار الفتوى ملتزمة بإيمان راسخ وقناعة ثابتة بها، رغم الأثمان الباهظة التي دفعها ويدفعها السنّة، حيث أنها كمرجعية وطنية للمسلمين السنّة، حريصة على الاعتراف بلبنان وطناً نهائياً لجميع بنيه، وعلى العيش المشترك القائم على التعددية والمناصفة، من خلال قيام سلطة شراكة حقيقية لا غبن فيها ولا حرمان لأحد على حساب أحد، ولا غلبة وتسلّط لأحد على أحد، ولا إستقواء لأحد بتوازن إقليمي – دولي ضد غيره.
– يتبع: الدور الوطني للرئيس رفيق الحريري