يصعب غالبًا الوصول إلى رواية واحدة حول حدث كبير، إذ لكل فريق روايته، ولكن ما لا يمكن الخلاف حوله هو النتيجة الملموسة والظاهرة للعيان، والنتيجة أن الحرب اللبنانية مثلًا حولّت لبنان إلى ساحة نفوذ إقليمية وقتل وفوضى بمعزل عمن يتحمّل هذه المسؤولية، وعلى رغم أن الوصول إلى قراءة موحدة حول أسباب الحرب في سياق البحث عن الحقيقة التاريخية يبقى ضروريًا وتحديدًا لجهة أخذ العبر وتجنُّب تكرار الأحداث بأشكال أخرى، إلا أن ما حصل قد حصل، والأمور، في نهاية المطاف، تقاس بنتائجها.
وإذا كان من الضروري الوصول إلى رواية واحدة حول أحداث السويداء المؤلمة ومحاسبة من يجب أن يحاسب، ووضع كل الجهود لمنع تكرار ما حدث، إلا أن الواقعة وقعت والنتيجة أن الرئيس أحمد الشرع كان في حالة صعود في دوره المحلي والإقليمي والدولي، كما في حضوره وصورته ومكانته، فشكلت هذه الحرب انتكاسة في هذا المسار التصاعدي، ويجب أن يصبّ جهوده كلها لمحو آثار هذه الانتكاسة، خصوصًا لجهة أن عامل الثقة بين الدولة ومكونات المجتمع هو العمود الفقري للبنيان الدولتي.
وما يُفترض أن يُدركه الرئيس الشرع هو التالي:
أولًا، يشكل إسقاط نظامه هدفًا استراتيجيًا إيرانيًا، لأن الخسارة الكبرى للمشروع الإيراني كانت في تحوّل الجغرافيا السورية إلى معادية لها، فانتقلت من مساحة وصل بين أذرع الممانعة، إلى مساحة فصل لهذه الأذرع، وتحديدًا لجهة “حزب الله” الذي سقط عسكريًا بحكم الجغرافيا، وبالتالي لن توفِّر طهران وسيلة لإسقاط نظامه، وإذا تعذّر عليها التخلُّص منه بالاغتيال، فإدخاله في الفوضى يخدم أهدافها الاستراتيجية، وفي طليعة هذه الأهداف تصوير أنه في عدائية مع مكونات شعبه وتحديدًا الأقليات.
ثانيًا، المستفيد الأول من أحداث السويداء، بمعزل عن أسبابها وظروفها وخلفياتها، هو إيران، والمتضرِّر الأول من هذه الأحداث هو النظام السوري.
ثالثًا، ما ينتظره الشعب السوري بعد عقود على حكم آل الأسد، هو الأمن والبحبوحة والحرية الفردية، فليس المطلوب اليوم ديمقراطية النظام وتداول السلطة، إنما المطلوب أن يشعر المواطن السوري بالفارق الكبير بين زمن النظام السابق وزمن النظام الحالي، خصوصًا أن باب البحبوحة يكمن في الانفتاح على المحيط والعالم، وهذا ما بدأه الرئيس الشرع وبنجاح لافت، والمدخل للإمساك بالأمن وتأمين الحرية الفردية يكمن في بناء جيش وقوى أمنية لا تميِّز بين مواطن وآخر، ولا أولوية لها سوى حفظ الأمن وترسيخ الاستقرار، والضرب بيد من حديد كل من تسوِّل له نفسه هزّ الاستقرار السوري.
رابعًا، إن قوة النظام تكمن في تماسك مكونات المجتمع حوله، ومن المهم أن تشعر الأقليات أن مصلحتها هي في تعميق ارتباطها بالدولة الوطنية السورية لا الانفصال عنها، خصوصًا أن هناك من يستخدم هذا الباب لاستهداف النظام، وبالتالي يجب أن تشعر أي أقلية بأن حمايتها وضمانتها هي في الدولة وفي الدولة فقط، وهذه مسؤولية تقع على عاتق الشرع في بناء الدولة التي يشعر معها كل مواطن أو جماعة أنها الكنف والحاضنة والسقف
خامسًا، يجب أن تشكِّل الانتكاسة الأولى في السويداء، بمعزل عمن يتحمّل المسؤولية أكثر من الآخر، درسًا للمرات كلها بأن عدم الاستقرار الداخلي يسيء إلى صورة الدولة، والخاسر الأكبر من هذه الأحداث ليس الدروز ولا العشائر فحسب، على رغم الدماء البريئة التي سقطت، إنما صورة الدولة العاجزة عن توفير الأمن للمجتمع السوري.
سادسًا، ليس من العدل ولا الإنصاف التعامل مع نظام الشرع كأي دولة عادية ومن دون الأخذ في الاعتبار الواقع السوري المريض بعد حرب طويلة، والحكم الكارثي لآل الأسد، وأنه لم يبلغ بعد عامه الأول في القصر، وأنه يتعرّض لمحاولات اغتيال وتفخيخ للواقع السوري، ولكن على رغم ذلك كله، وهو صحيح، إلا أن المطلوب من الشرع الكثير الكثير وفي الطليعة عامل الثقة بين الدولة والمواطن أولًا، من ثم الثقة بين الدولة وعلاقاتها الخارجية التي تُنسج على قاعدة المصالح المتبادلة بعيدًا من الأزمنة الأيديولوجية العفنة.
يُدرك الرئيس الشرع أخيرًا بأن وجوده في القصر يشكل مصلحة ليس للشعب السوري فحسب، إنما للاستقرار الإقليمي، والأنظار مركزة عليه، ولا يكفي أن ينتزع ثقة العالم إذا لم ينتزع ثقة مكونات شعبه كلها، ولا بل يجب أن تشكل ثقة دول العالم مزيدًا في تعزيز الثقة في دوره الداخلي وصورته لدى شعبه.
قد يقول قائل إن ما حصل في سوريا من أحداث مؤلمة ومفجعة سببه تلك المؤامرة اللبنانية الخفية التي تغلّبت تاريخيًا على الجيوش كلّها التي حاولت أن تُلحق لبنان بمشاريعها، وأن ما حصل من أحداث مؤلمة في السويداء جاء ردًا على تصريح السيد توم براك، قبل توضيحه، بأنه “ما لم يتحرّك لبنان فسوف يعود مجددًا إلى بلاد الشام”، بمعنى أنه كيف يمكن لمن هو غير قادر على توحيد سوريا أن يضم لبنان، فجاءه الرد لبراك سريعًا!؟
ولكن الأكيد أن زمن الضمّ والإلحاق انتهى مع نهاية المشروع الممانع في المنطقة، وأن مصلحة لبنان تكمن في سوريا مستقرة، والعكس صحيح، وأن النظام الجديد يشكل مصلحة لشعبه وللدول العربية التي أخرجت سوريا من المشروع الإيراني وأعادتها إلى المشروع العربي، وأن المصلحة تكمن في عودة الدول الوطنية التي تبسط سيادتها وتحمي خصوصياتها وتنوعها.
ويبقى المطلوب من الرئيس الشرع أن يطوي الانتكاسة الأولى إلى غير رجعة من خلال القرارات والتدابير والخطوات التي تعيد ترميم جسور الثقة بين مكونات المجتمع السوري تحت سقف دولته الوطنية، وفي المناسبة، المطلوب من الشرع لبنانيًا أن يزور لبنان في زيارة تاريخية لنطوي معًا فصولًا من عدم الثقة، ونؤسِّس معًا للبنان الجديد وسوريا الجديدة.