IMLebanon

جدول أعمال داخلي

فجأة تغيّر العالم العربي من حولنا. لم يكن أحد يتوقع ما حصل. حتى الآن لا أحد يستوعب كل المشهد. ارتفع الغطاء عن مجتمعات كانت مختصرة بصورة تقليدية ورتيبة. رؤساء حكومات ومناسبات رسمية وخطب سياسية مكرورة. جاء الحدث بحجم سقوط جدار برلين. تدفقت المياه خلف السدود السياسية ونكاد لا نصدق أن المجتمعات تتفتت على وقع عنف يلفها جميعاً بدرجات متفاوتة.

كثيرون الآن على مستويات مختلفة يفكرون سراً بأنهم لو عرفوا التداعيات لأحجموا ربما عن الخوض في هذه المعمعة. النموذج الأكثر وضوحاً في دنيا العرب لبنان، الدولة بمختلف مؤسساتها، الأحزاب، الجماعات الطائفية، وكذلك النخب السياسية والثقافية. لم تنجح التوقعات، ولم تنجح الحسابات، ولم يأتِ حساب الحقل مطابقاً لحساب البيدر.

لنتجاوز الآن صدمة اللحظة الانفجارية من تونس إلى مصر حيث شاع جو من التفاؤل والأمل. ولنتجاوز حالة ليبيا التي تعرضت لاحتلال جوي دولي. ثم لنتجاوز ردة فعل النظام السوري الذي تأبَّط خيار الحسم العسكري منذ اللحظة الأولى مصوّباً على الجانب الخارجي من الأزمة. نحن الآن على مشارف نهاية أربع سنوات مازلنا في دائرة الغموض بكل ما سيلي من أحداث وبكل ما يحصل من نتائج. نستطيع على الأقل أن نسجّل بعض التوقعات المستندة إلى معطيات موضوعية.

لقد ضرب المنطقة زلزال عنيف في المشرق والمغرب غيّر المناخ السياسي الكامل من تلك المظلّة العربية و«اللغة العروبية» وأدخلنا في مناخ الإسلام السياسي ونزاعات الهويات الفئوية والفرعية قومية وإثنية وطائفية وجهوية وقبلية. ثم سقطت حدود الدول بمعنى التفاعلات السياسية والأمنية فزاد وتظهّر التدخل الإقليمي والدولي معلّقاً مبدأ السيادة.

انتشرت الحركات السياسية المسلحة العابرة لهذه الحدود وأنشأت في كل مكان قواعد انطلاق وتحرك وبلغت حد إنشاء مناطق نفوذ معلن تتحكم من خلاله بمصير الملايين من السكان. انتقلنا من حال الاختزال السياسي والأيديولوجي إلى حال من «التعددية» على جميع المستويات ولا بديل من استيعاب هذه «التعددية» في أي تصور لحل نزاعات المنطقة. ضاعفت الحروب والصراعات من المشكلات السكانية الاقتصادية والاجتماعية، وهذه ملفات لا تُحصى الآن.

صار على أي مرجعية نظامية أو حكومية أن تواجه نتائج الأزمة وليس فقط أسبابها. قد لا تكفي خطة «مارشال» التي أعادت إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية لكي تعيد العالم العربي لظروف ما قبل الحرب. هناك وهم خطير يسيطر في تفكير العرب أن ثروتهم النفطية والغازية المتدفقة حديثاً تحل هذه المشكلات. اقتصاد العرب كله لا يوازي اقتصاد دولة أوروبية متوسطة. هذه الثروة النفطية كانت تذهب إلى العوائل والنخب الحاكمة ولم تؤسس لبنية اقتصادية وطنية ولم توفر أسباب التقدم الاجتماعي. الريع النفطي لن يعالج مشكلات البطالة والأمية والفقر والتهميش وغياب الخدمات والضمانات ما لم يساهم في التنمية البشرية. لا نستطيع في أي مستقبل عربي عزل المشكلات من بلد لآخر. ولنأخذ لبنان مثلاً فإن أعباء العلاقات مع سوريا ستزداد، وتتراجع قدرة لبنان على التعامل مع الحاجات الاجتماعية في مناخ السلم إذا حصل. إذا كنا لا نستطيع أن نستجيب لمطالب المعلمين والموظفين المئتي ألف مواطن الآن فأي جائزة ستحصل عليها الدولة اللبنانية لمعالجة مشكلات المستقبل؟ عملياً لا نملك رؤية في الحكم وخارج الحكم للتعامل مع المستقبل القريب والبعيد. هذه السياسة «اليومية» التي تتعثر أمام الطوارئ الصغيرة لا تستطيع أن تفتح الآفاق الواسعة.

مشكلات المنطقة والعالم من حولنا لن تتوقف، وهذه ليست ذريعة لتجميد مشكلاتنا. نصف قرن ونحن نرهن البلد ومستقبل شعبه لأولويات الخارج وها نحن اليوم كأننا نفرح لـ«هدية داعش». صارت «داعش» حجة لتأجيل إدارة حياتنا اليومية، بل لتجديد «انتداب» هذه الطبقة السياسية الفاشلة. نصنع الظروف الاستثنائية لنبرر الحياة الاستثنائية. ساقطة هذه القوى السياسية بكل المقاييس والمعايير والمعاني العملية والأخلاقية وهي تفسد حياتنا منذ نصف قرن في قضايا لا حول لنا فيها ولا طول. لن نكون أصلاً في حساب أحد وفي ميزان أحد إن لم نكن شعباً يتمتع بالحرية والكرامة ويعرف كيف يصنع حياته وتقدمه الاجتماعي. ثمة حاجة اليوم لحركة تستفتي اللبنانيين حول جدول أعمال داخلي فماذا يبقى عندذاك من رصيد هذه الجمهورية ومن قادتها ومن وعي جمهورها ومن مستقبلها؟