لبنان الذي خرج من مأزق عميق بقوّة التحوّلات المتسارعة في المنطقة يتعثّر في خطواته الضرورية على الطريق إلى ترتيبات ما بعد الخروج. هو عالق في ممرّ ضيّق بين مرحلتين: واحدة تقاوم التسليم بالنهاية، وأخرى تقاتل من أجل أن تكتمل العناصر التي تتجاوز البداية. وليست عودة “الترويكا” مع حق “الفيتو” لممثل “الثنائي الشيعي” ثمّ الإصرار على فرض القرارات، سوى صورة في مشهد الممرّ الضيق. والمشهد في لبنان هو صورة في المشهد الإقليمي والدولي الواسع. ففي المرحلة الأولى دفع الوطن الصغير ثمن أخذه بالقوّة إلى محور مناقض للواقع العربيّ سمّي “محور المقاومة” بقيادة إيران، ثم قادت التحوّلات المتسارعة في غزة ولبنان وسوريا وإيران إلى إضعاف الذين أخذوا لبنان إلى ذلك المحور ودفع ثمن باهظ. وفي المرحلة الثانية، فإنّ لبنان الموعود بالازدهار والاستقرار مهدّد بأن يقوده تمسّك قوى الممانعة بسياساتها التي فشلت إلى دفع ثمن عودته إلى المدار الصحيح ليكون على صورة العالم العربي ومثاله.
ذلك أن مسار التحوّلات في المنطقة مرتبط بما يفعله اللاعبون الإقليميون: الإيرانيون والإسرائيليون والعرب والأتراك، لكنه يتوقف على ما يفعله اللاعب الأكبر الرئيس دونالد ترامب. وإذا كان الاختلاف في السياسات والوسائل والأساليب بين اللاعبين الإقليميين أمرًا طبيعيًا، فإنّ الطلعات والنزلات في مواقف ترامب وسياساته وأساليبه ليست أمرًا عاديًا. والظاهر، حتى الآن في إدارة ترامب لألعاب الحرب ووقف النار في غزة ولبنان وإيران، هو الاستعجال. خطوات غير متناسقة. حروب ناقصة، وصفقات وتسويات وحتى حلول غير كاملة ولا شاملة. وهذه مشكلة ترامب، لكنها مشكلة المنطقة أيضًا. لا بل هي في المجال الأوسع مشكلة مع العالم ومشكلة العالم مع أميركا، أو مشكلة رئيس مع فهمه دور بلاده وقراءته الواقعية في قوتها.
وإذا كان ترامب ونتنياهو يحتفلان بـ “الانتصار على إيران” وتوظيفه في غزة ولبنان وسوريا، فإنّ المرشد الأعلى علي خامنئي أعلن “النصر الإلهي” على إسرائيل وأميركا. والمعنى البسيط لذلك هو صعوبة المخاض الذي تمرّ به المنطقة. فما تسمّيها الجمهورية الإسلامية الإيرانية “أيام الاقتدار” هي الأيام الـ 12 في حرب اغتالت خلالها إسرائيل كبار القادة العسكريين وعلماء الذرة ودمّرت صواريخ ومنصات إطلاق صواريخ وبنى عسكرية، وسيطرت على الأجواء في سماء طهران، وضربت أميركا المنشآت النووية في أصفهان ونطنز وفوردو. وما يعتبره ترامب ونتنياهو ذروة القوة الأميركية والإسرائيلية لا يغطي الدمار الذي أحدثته الصواريخ الباليستية الإيرانية في تل أبيب وقلب إسرائيل.
ولا نصر عمليًا في حرب جوية وصاروخية من دون مشاة على الأرض. ومن الصعب ترجمة الحروب الناقصة إلى مكاسب سياسية ثابتة. فالكلّ في لبنان والمنطقة يراجع نقاط القوة ونقاط الضعف في ضوء حرب غزة ولبنان وإيران في محاولة لتقوية نقاط الضعف. علمًا أن تطوّر إدارة الحروب يحوّل نقاط القوة الجديدة إلى نقاط ضعف. والناقص لدى الجميع هو حدوث تحوّل استراتيجيّ يرافق التحوّلات المتسارعة في المنطقة. وهذا ما أشارت إليه صحيفة “شرق” الإصلاحية في إيران في مقال اليوم التالي بعد وقف الحرب بالقول: “إن حرب الإرادات ليست هي التي تقرّر مصير الحرب، بل إن حرب التكنولوجيا هي التي تحدّد المنتصر في الميدان”.
والتجارب وراءنا وحولنا وأمامنا. الرهانات، خلال مئة عام ومؤخرًا في حرب غزة ولبنان وإيران، تركّزت على حرب الإرادات، والنتائج على الرغم من الشجاعة والبطولات هي الهزيمة. ولا مجال للهواة والأيديولوجيين في حرب التكنولوجيا. أمّا التعثر في لبنان وبعض دول المنطقة، فإنه ليس قدرًا يمنع التحوّل الاستراتيجيّ. وأما التحوّل الاستراتيجيّ الحاصل في سوريا، فإن اكتماله يحتاج إلى توسيع قاعدة النظام. واللعبة في الشرق الأوسط جزء ممّا سمّاه البروفسور هال براندز “مرحلة المعركة الرابعة على أوراسيا”.