IMLebanon

الارهاب بين لبنان ونيس

لم أفهم حتى اللحظة هذا التنطّح لبعض الصحافيين اللبنانيين الذين يطلقون اتهامات خبيثة عن «الإسلاموفوبيا» من بوّابة العملية الإرهابيّة التي شهدتها مدينة نيس الفرنسية قبل أيامٍ قليلة، وكأنّ العالم أو تاريخ البشريّة لم يعرف أو لم يكن في كل حقباته  ضحيّة إرهاب في كل عصر من عصور التاريخ، بل منذ لحظة الخطاب الإلهي للملائكة وإخباره لهم عن خلق الإنسان: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ» [البقرة: 30].

منذ أن قتل قابيل أخاه هابيل، سُفكت الدماء، هكذا افتتحت البشريّة صفحة وجودها على الأرض، وستبقى الدّماء تراق والفساد يستشري حتى يرث الله الأرض ومن عليها، في مقدمته عرّف ابن خلدون الإرهاب: «هو القهر والبطش بالعقوبات والتنكيل، والكشف عن عورات الناس»، وعرّفه المؤرخ المميز والتر لاكور «عملية رعب تتألف من ثلاثة عناصر هي: فعل العنف أو التهديد به، ورد الفعل العاطفي الناجم عن أقصى درجات خوف الضحايا، والآثار الناجمة عن ذلك التي تمس المجتمع ككل»، وليس هنا مجال استعراض تعريفات شتّى، ولكنّني أتوخى عرضاً موجزاً لإرهاب الإنسان منذ الحضارات القديمة.

أول من لفظ واستخدم كلمة الإرهاب هم الفراعنة وذلك في سنة 1198 ق.م حيث دبرت مؤامرة لقتل الملك رمسيس الثالث، وقد أطلق الملك على هذه المؤامرة «جريمة المرهبين»، وعرف الآشوريون الإرهاب في القرن السابع قبل الميلاد فكانوا يقتلون أطفال ونساء ورجال المدن التي كانوا يهجمون عليها، وفي عصر الرومان كانت الجريمة السياسيّة مرادفة للإرهاب فلم يفرّقوا بين الخطر الموجّه داخلياً والخطر الموجّه خارجياً، إلى أن فُرّق بينهما في عهد الجمهورية الرومانية فسمّوا كل عمل يمسّ الملك بأنّه إرهاب، وسمّوا كلّ فعل يضر بالمجتمع والأمّة الرومانية بأنّه جريمة سياسيّة…

حتى فرنسا التي وقعت تحت وطأة إرهابي نيس عصفت بها بعد الثورة الفرنسية عام 1789 مرحلة يلفّها الإرهاب، خلال عهد الجمهورية اليعقوبية مع لجوء أفراد الثورة الى الوسائل الإرهابية من أجل تحقيق أهداف الثورة والحفاظ عليها، وفي بداية القرن التاسع عشر ظهرت حركتان كانتا الأصل في ظهور معظم الحركات الإرهابيّة في معظم أنحاء أوروبا، وهما الحركة الفوضويّة وقد استندت للأفكار الشيوعيّة، والحركة العدميّة وهي حركة الفوضوييّن الرّوس وكان هدف الحركتيْن بثّ الرعب في نفوس رجال الفكر والسياسة والفلسفة والأدب، وظهرت عام 1879 منظمة إرادة الشعب وهدفت إلى تصفية رجال الفكر والسياسة المناهضين لأفكارها.

وفي القرن العشرين ظهر الحزب الإشتراكي الثوري ونفّذ مجموعة اغتيالات بين الأعوام 1902 و1910، كما كان للأنظمة الماركسية نصيب وافر من الأعمال الإرهابية في مختلف الأماكن التي وجدت فيها الأحزاب والحركات الشيوعية الماركسية، واعتبر لينين أنّ الإرهاب صفة الصراع الطبقي ضد البورجوازييّن في أعقاب قيام الثورة البلشفية 1917 فقام باعتقال وإعدام أفراد الجيش الأبيض ومن دون أي محاكمة، وبرّر هذه الإعدامات بأن الأمن الداخلي لا يقوم إلا بنشر الذعر والهلع بين أعداء الثورة!!

لا نريد أن نستعرض هنا لا إحصائيا عن إرهاب السبعينات ولا عدد المنظمات الإجرامية ـ هكذا كان يطلق على التنظيمات الإرهابيّة ـ ولا نريد الحديث عن أول إرهاب مفخخ ضرب الولايات المتحدة الأميركية بانفجار أول سيارة مفخخة في وول ستريت في نيويورك عام 1920، كلّ هذا الإرهاب عبر تاريخه لم يكن له علاقة بالإسلام، ولكن كلّ هذا الإرهاب له علاقة بالسياسة، إرهابي نيس لم يختر القتلى بحسب هويتهم الدينيّة، وكذلك داعش والقاعدة والأنظمة الإرهابيّة التي عرفتها المنطقة من معمّر القذافي إلى بشّار الأسد إلى إيران، هؤلاء يقتلون على حدّ سواء المسلم والمسيحي، وهذا لا ينفي الصراعات التي عصفت بالتاريخ الإنساني تحت عنوان الدّين، وهذا إرهاب آخر عصف بالتاريخ المسيحي وعلى سبيل المثال نذكر هنا حرب الثلاثين عاماً التي مزّقت أوروبا، ولا الصراعات باسم الدّين التي عصفت بالتاريخ الإسلامي، ولا حتى الصراعات بين القبائل الوثنية في مجاهل إفريقيا، هذا هو تاريخ البشر منذ قتل قابيل هابيل، وسيبقى.

رفقاً بلبنان، ورفقاً بالمسيحيين فلا تستثيروا غرائزهم ضدّ الإسلام والمسلمين، ورفقاً بالمسلمين فلا تفسحوا في المجال لإحداث صدعٍ في وحدة العيش المشترك ولبنان ـ الرسالة، تقتضي مهمتنا تبريد الرؤوس الساخنة والألسنة السليطة، لا في إطلاق العنان لها لأنّ عملاً إرهابياً وقع في دولة ما، استحى الفرنسيّون أن يقولوا بعض ما يقوله اللبنانيّون، وعن عصبيّة وطائفيّة ومذهبيّة أيضاً!!