IMLebanon

تلك الأقلية…

ـ 1 ـ

أين ذهبت تلك الأقلية؟ أولئك الذين خرجوا عن «الميل العام» في «ثورات» لم تكتمل… وركبوا قبل غيرهم نهاية تركيبات ما بعد التحرّر من الاستعمار… الأقلية التي لم تلتفت إلى «الإجماع» الذي تحصل عليه سلطات الاستبداد في الصناديق أو ذلك الذي كان يعتبر «الثورة» لمّة سيئة السمعة، والتغيير «مؤامرة أجنبية»، و«الاصطفاف خلف رب النظام وفرعونه الكبير» هو قمة «الوطنية».

أين تبخرت تلك الأقلية التي أشارت إلى «احتمال آخر» و«إمكانية غير الاندماج» و«عالم جديد»؟ هذه الأقلية يحمّلونها الجحيم الكوني الذي فتح على بلاد لم يعد الاندماج «مع التركيبات الراهنة» قادراً على حمايتها.

الأقليات التي خرجت عن «الاصطفاف» خلف التركيبات العاجزة، وأشعلت ثورات أصبحت ملعونة الآن بثوراتها، تجتزّها قوى متعددة اجتزازاً من الواقع، وهي بهشاشتها تنسحب إلى فقاعاتها الشخصية.

الأقلية التي اقترحت «الثورات» ذهبت إلى انتحارها، أم أنها في جولة من جولات «هزيمة الكيانات السياسية الكبرى» أمام أسئلة اللحظة الراهنة. لكن الأقلية دفعت ثمن المغامرة إصابات بالغة سواء في تحالف الكيانات أو صراعاتها.

ـ 2 ـ

قبل الثورات لم يكن التغيير مطروحاً إلا في إطار «انقلابات قصور».

وبعدما خرجت أقليات عن «الإجماع»، أو بالأحرى حرّرت الإجماع من سطوة «السير كالقطعان ثمناً لحياة آمنة»… فإن الثورات وهزيمتها في جولات أولى وثانية لم تكن مجرد صراع على السلطة، أو سعياً إليها، أو إشعالاً ذاتياً لطاقات مهمّشة، لكنها أيضاً أتت إعلاناً عن فشل «الميل العام» للتسويات المؤدية من وإلى «سلطة أبوية» تعرف أكثر وقطعان يسمونها شعوباً تغطي انحيازاتها الطبقية بشعارات تمثل «إسمنت» الدولة الفاشلة.

الدولة فاشلة الآن ولم يكن لديها سوى العودة إلى حكم «أقلية» تدافع اليوم عن سلطتها رغم الضعف الكامن.

غياب أقلية «الثورة» وصعود أقلية «الدولة» ليس فعلاً درامياً فقط، لكنه عودة إلى سطوة الميل العام للاستسلام أمام «الأقدار» السياسية، ومتاهات تجعل الدول الأمنية تفشل في الأمن لكنها تعيد الشعارات نفسها. والدولة الإسلامية من تنظيمات «شبه سياسية» إلى ميليشات مرتزقة أممية ترفع السكاكين على الجميع، وبينهما تكتب الأقلية التي بشّرت بالثورات مرثياتها… الحارقة.

ـ 3 ـ

وفي سؤال «الحرب على الإرهاب» في مصر مثلاً تفشل حلول «الميل العام»، ويكتشف تدريجياً أن «الحل الأمني» لا يمكنه تحقيق الانتصار على مجرّد ميليشات لآكلي الدول، خاصة عندما يتم استغلال الحرب ضد الإرهاب لإسكات أصوات الاختلاف أو إخلاء المجال السياسي وطرد كل القوى السياسية التي لا ترى وجودها مجرد تذييل أو تزيين للدولة…

وهنا يمكن أن نرى الهجمة الإرهابية (الأضخم والأعنف والأشرس) كعنصر كاشف لمسارات لا تؤدي إلى شيء… لا المسار الذي يجعل الاستسلام لابتزاز جماعات منتظري الخلافة سياسياً أو اجتماعياً (بالتركيز على مظاهر تدين الدولة أو إسلامها… أو بمهاجمة المختلفين ثقافياً أو فكرياً أوعقائدياً)… ولا المسار الذي يضع الجيش والمؤسسات الأمنية طرفاً سياسياً تحت شعار (هل تؤيّد الجيش؟)، لأن مؤسسات الدولة تعمل وفق مهام ووظائف، ليس من بينها الدخول في الصراع السياسي (والفارق بين تحوّل المؤسسات إلى طرف ومساندتها في حرب الإرهاب هو الفرق بين البروباغندا الإعلامية التي تمنع الحوار والنقد الجاد وبين أعمال مبدأ المحاسبة والقدرة على تصحيح الإجراءات والخطط لإعادة بناء الثقة والقدرة)…

وأخيراً، لا المسار الذي يتصوّر أنه يمكن مواجهة الإرهاب بالمصالحة الاضطرارية مع «الجانب المعتدل» من تيارات انتظار الخلافة، وهي أوهام انكشفت على مراحل بأنها تغذي منابع الإرهاب والطائفية… ومن ثم، وكما بدا أثناء حكم مرسي (وفي استعراض الصالة المغطاة ثم في منصة رابعة)، يذوب الفرق بين المعتدل والمتطرف، بما أن معركتهما واحدة وهي العودة إلى الخلافة وربط الإيمان بها، واللعب على الاعتدال كما اللعب على المطالب الاجتماعية لتمرير الخطاب الطائفي والإرهابي، وهذا ما يبدو ممثلاً في الدعوة إلى «انتفاضة الشباب المسلم» يوم 28 تشرين الثاني دفاعاً عن عودة الخلافة، ولكنها تضع العدالة الاجتماعية لتبدو أنها ثورة ضد النظام الحالي وليست حرباً باتجاه انتصار نسخة ركيكة من نسخ جماعات انتظار الخليفة الغائب…

وهكذا فإن حسم المعركة لن يأتي بمزيد من اتهامات التخوين وإرهاب الأصوات النقدية أو الرافضة لسياسات تروّج مبدأ «الحريات سبب الإرهاب»… أو»لا تطالب بالحقوق… نحن نحارب الإرهاب».

ولن يأتي الحسم بعلو صوت الجوقة المشؤومة في التلفزيونات لغناء «تسلم الأيادي» ولا بمزيد من تظاهرات وضع البيادة فوق الرؤوس…

ولن يأتي الحسم أيضاً بالاستجابة لابتزاز الإسلاميين ومنتظري الخلافة… أو بالشامتين الفرحين بغزوات الإرهاب…

الحرب مع الإرهاب جذرية وشاملة… لا يمكن إبعاد العنصر الأمني منها بالطبع، لكنه ليس «الصوت الذي لا يعلو عليه صوت»، كما أن العنصر السياسي يعني أولاً تجفيف منابع الإرهاب في أنظمة التعليم وداخل مؤسسات الدولة نفسها…

نعم الدولة نفسها وبداية من استجابتها لمعارك الإسلاميين حول «الهوية» و«المادة الثانية» ولعبها على «المعتدل» و«المتطرف»، تمهّد الأرض أمام الإرهابي الذي يرى السياسة «غزوة» في سبيل بناء «مملكة الله على الأرض»… وهي ليست إلا استعراضات أمراء القتل باسم الله.