IMLebanon

مآلات الأزمة الكورية بعد قمة ترامب – كيم

           

القمة الأميركية- الكورية الشمالية هي اختراق ديبلوماسي جلل، لكنه يواجه تحديات من شأنها أن تنال من قدرته على بلوغ أهدافه. فبادئ ذي بدء، ألقت الأجواء الاحتفالية بظلالها على القمة، حتى بدا اهتمام الجميع كما لو كان منصباً في مجرد إنجاحها، ولو بروتوكولياً وإعلامياً فقط. ومن ثم جاءت وثيقة التفاهم الإطارية التي وقع عليها الرئيسان مبهمة. فعلى رغم أنها تضع أسساً لحوار ممتد ومفاوضات متواصلة، لوحظ أنها تتجنب الخوض في أي تفاصيل استراتيجية خلافية يمكن أن تجهض التقارب الجنيني الحذر بين الجانبين. وخلت الوثيقة من ذكر آليات إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية، والجدول الزمني والترتيبات الفنية والاقتصادية المتعلقة بكيفية وتكلفة عملية تفكيك تلك الأسلحة، علماً أنها قد تستغرق عشر سنوات وتتكلف عشرين بليون دولار، وفق خبراء. كذلك، لم يتم الإفصاح عن طبيعة ونوعية الضمانات الأمنية والاقتصادية التي ستقدمها واشنطن لبيونغيانغ نظير إتمام هذه المهمة الشاقة. ففي معرض رده على سؤال مباشر بهذا الصدد، قال ترامب: باشرنا العملية، التي ستبدأ سريعاً جداً، بيد أن اللافت في هذا الصدد أن الرئيس الأميركي ما عاد يتمسك بضرورة إتمامها قبل انتهاء مدته الرئاسية الأولى عام 2020، إذ اعترف، خلافاً للمعتاد من لدنه، بأن عملية نزع السلاح النووي الكوري الشمالي ستستغرق وقتاً طويلاً.

 

 

بدوره، آثر كيم الثالث تجنب تسليط الضوء على قضية انسحاب زهاء ثلاثين ألف جندي أميركي من كوريا الجنوبية، يراهم مصدر تهديد مزمن لأمن بلاده واستقرار شبه الجزيرة الكورية قاطبة، بينما تعتبرهم واشنطن ركيزة للسلام والاستقرار في منطقة ملتهبة، ورسالة ردع ليس لكوريا الشمالية فحسب، وإنما للصين التي أضحت تتصدر قائمة التهديدات للأمن القومي الأميركي، فيما صرح رئيس كوريا الجنوبية بأن أهمية القوات الأميركية في بلاده تتخطى كونها مجرد قوة ردع، لتعبر عن تحالف استراتيجي طويل المدى بين سول وواشنطن. ويشكل الخلاف حول مفهوم نزع السلاح النووي الكوري الشمالي تحدياً قانونياً واستراتيجياً لا يستهان به، ففي حين تصفه واشنطن بالتفكيك الفوري والشامل والقابل للتحقق منه وغير القابل للتراجع عنه للسلاح النووي الكوري الشمالي وأدوات إيصاله، فيما يذهب به وزير الخارجية مايك بومبيو بعيداً إلى نزع الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والصواريخ الباليستية الاستراتيجية من طراز «هواسونغ 15» القادرة على حمل رءوس نووية وبلوغ السواحل الأميركية، تراه كوريا الشمالية في مظاهر أخرى كالنزع الكلي للسلاح النووي من مختلف أصقاع شبه الجزيرة الكورية، بما يشمل القوات الأميركية المرابطة في كوريا الجنوبية، والقاذفات الاستراتيجية الرابضة في اليابان وجزيرة غوام، والصواريخ العابرة للقارات المتمركزة في ألاسكا، فضلاً عن تجميد أي أنشطة نووية كورية شمالية مستقبلاً، قبل الشروع في عملية متدرجة وممتدة لتفكيك الأسلحة النووية، بالتزامن والتوازي مع تقديم واشنطن وحلفائها ضمانات أمنية تتمثل في عدم تهديد كوريا الشمالية أو محاصرة نظامها بغية إسقاطه، وحوافز اقتصادية تتجلي في الرفع الكامل للعقوبات الأممية والأميركية القاسية التي أثقلت كاهل اقتصادها، علاوة على ضخ المساعدات الدولية لمساعدة ذلك الاقتصاد المنهك على التعافي، مع توفير ضمانات بعدم تراجع أميركا أو حلفائها عن أي اتفاقات أو تعهدات يتم التوصل إليها، مثلما جرى مع إيران أو كوريا الشمالية إبان المحادثات الثنائية التي أجرتها الأخيرة مع الولايات المتحدة إبان عهد بيل كلينتون، ثم تلك السداسية التي ضمت إلى جانب أميركا وكوريا الشمالية، كلا من روسيا والصين واليابان وكوريا الجنوبية، في عهد جورج بوش الابن، الأمر الذي اعتبرته بيونج يانج السبب الرئيس في فشل التوافقات والتفاهمات السابقة بينها وبين واشنطن والغرب في أعوام 1994 و2005، و2007.

 

ثمة تحد آخر يتمثل في تواضع إجراءات بناء الثقة بين ترامب وكيم، فبينما أقدم الأخير في 21 نيسان (أبريل) الماضي على تعليق التجارب النووية وتدمير موقع بيونغي ري للتجارب النووية، كما تعهد لترامب خلال قمة سنغافورة بتدمير ميدان كبير لاختبار المحركات الصاروخية، أكدت تقارير استخباراتية عدم أهمية هاتين الخطوتين كون الموقعين المذكورين قد فقدا بالفعل صلاحيتهما للعمل مستقبلاً، بالتزامن مع تراجع حاجة بيونج يانج الملحة لإجراء مزيد من التجارب النووية والصاروخية في الوقت الحالي، أكد ترامب أنه لم يقدم أية تنازلات لكيم، الذي أكد له إبقاء العقوبات على بيونج يانج إلى حين انتهائها من تفكيك سلاحها النووي، حيث اكتفى الرئيس الأميركي بتعليق مؤقت للمناورات العسكرية المشتركة التي تجريها بلاده في شكل دوري مع سول.

 

ومن غير المستبعد أن تفضي تجربة جنوب أفريقيا في تفكيك السلاح النووي إلى دفع كوريا الشمالية نحو مزيد من التشدد مع الأميركيين، عبر الإصرار على عدم التفريط بسهولة في ترسانتها النووية تحت أي ظرف. فعلى رغم تجسيدها النموذج العالمي الوحيد للتخلي الطوعي عن سبعة قنابل نووية في عام 1991 من خلال الانضمام إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، بعدما تراءى لها زوال دواعي امتلاك ذلك السلاح الفتاك، خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1990، والذي كان يقض مضاجعها بتهديداته، بالتزامن مع إنهاء نظام الفصل العنصري وتسليم السلطة إلى حزب المؤتمر الوطني بزعامة نيلسون مانديلا، تتطلع جنوب أفريقيا، الرامية إلى تعزيز ثقلها الاستراتيجي وسط دول مجموعة بريكس، لإحياء برنامجها النووي بغية تأمين احتياجاتها المتزايدة من الطاقة، في ظل تفاقم النمو السكاني والتوسع في مشاريع التنمية. غير أن البلد الذي يمتلك خبرة تاريخية هائلة في المجال النووي يبدو عاجزاً هذه الأيام عن بلوغ مراميه تلك، حيث يواجه مفاعله النووي الوحيد في كويبرج مصاعب فنية جمة ربما تقوض قدرته على إنتاج الطاقة، فيما يتعثر مشروع (بي بي إم آر ) الذي أطلق عام 1999 لبناء ثلاثة مفاعلات نووية. الأمر الذي اضطر الرئيس زوما إلى توقيع اتفاقية للشراكة الاستراتيجية والتعاون في مجال الطاقة النووية والصناعة مع روسيا، تقوم بموجبها الأخيرة بمساعدة جنوب أفريقيا في بناء ثماني مفاعلات نووية.

 

شأنها شأن سائر المحطات المصيرية في الأزمة الكورية، أبرزت قمة سنغافورة محورية دور الصين في مجريات تلك الأزمة، فعلاوة على كونها الشريك التجاري الأول لبيونج يانج، كما لم تتوان عن مساعدتها على تطوير قدراتها النووية والصاروخية، فهي أيضاً التي أقنعت كيم الثالث بلقاء ترامب، وخصصت له طائرة صينية سافر على متنها إلى سنغافورة. ولعل تعمد واشنطن استفزاز بكين أخيراً من خلال الإعلان عن فتح مكتب تمثيل أميركي جديد في العاصمة التايوانية تايبيه، يعمل كسفارة من الناحية الفعلية، بالتزامن مع انعقاد قمة ترامب- كيم في سنغافورة، كفيل بأن يعزز المساعي الصينية لتوظيف واستبقاء الورقة الكورية الشمالية في الصراع المتشعب والممتد مع واشنطن. ومن ثم، لم يستبعد خبراء أن تكون بكين وراء التصور الكوري الشمالي الفضفاض والمراوغ في شأن إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية، والذي يلح في طي صفحة الوجود العسكري الأميركي بكوريا الجنوبية، وإنهاء المظلة النووية الأميركية لكوريا الجنوبية واليابان، وسحب الأساطيل والغواصات النووية الأميركية من بحر الصين الجنوبي. الأمر الذي من شأنه أن يبقى على إقحام الأزمة الكورية في أتون الصراع الدولي المتعاظم بين بكين وواشنطن، بما يزيد من تعقيدها ويلقي بظلال من الغيوم على مآلاتها.