IMLebanon

تركيبة الوفد الأميركي: مؤشرات على استراتيجية شاملة تجاه لبنان

 

 

لم تمرّ زيارة الوفد الأميركي إلى بيروت مرور الكرام. فقد جاءت هذه الزيارة في توقيت حسّاس، بينما كانت الحكومة اللبنانية منهمكة بإعداد خطة رسمية لنزع السلاح غير الشرعي، ولا سيما سلاح «حزب الله». وما لبثت الزيارة أن تحوّلت إلى حدث سياسي بارز، نظراً لحجم الوفد ومكانته، إضافة إلى الرسائل والوعود التي حملها، وزلّة لسان شكّلت مادة خلافية داخل المشهد الإعلامي اللبناني.

لم تكن الزيارة مجرد محطة بروتوكولية؛ بل سرعان ما أصبحت محور نقاش سياسي داخلي. فالوفد، الذي ضم المبعوث الخاص توماس باراك، والسيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، والسيناتورة الديموقراطية جين شاهين، والنائب الجمهوري جو ويلسون، إلى جانب السفيرة الأميركية ليزا جونسون، تنقّل بين القصر الجمهوري والسراي ووزارة الدفاع، حاملاً معه ثلاث «وثائق رسمية»: دعم خطة نزع السلاح، مقايضة مع إسرائيل، وحافز اقتصادي مشروط. غير أنّ المؤتمر الصحافي أفرز وثيقة رابعة غير مكتوبة: الأزمة الإعلامية.

 

• دلالات الوفد الأميركي

 

لم تكن تركيبة الوفد عشوائية، بل حملت رسائل سياسية وأمنية واقتصادية متشابكة. فتوماس باراك مثّل البُعد الاقتصادي والاستثماري، مستفيداً من علاقاته الخليجية وقدرته على طرح مشاريع موازية للخطط الأمنية. أما السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، فمثّل الوجه الأكثر تشدّداً، رافعاً ملف نزع سلاح «حزب الله» وربطه بالمستقبل السياسي للبنان والانفتاح على إسرائيل والسعودية.

حضور السيناتورة الديموقراطية جين شاهين يؤكد الطابع العابر للحزبين، أي أنّ الملف اللبناني يحظى بإجماع استراتيجي أميركي، في حين يعكس النائب الجمهوري جو ويلسون البُعد التشريعي والمالي الضروري لتمرير أي مساعدات مستقبلية للبنان. السفيرة ليزا جونسون لعبت دور الوسيط الميداني، لضمان متابعة دقيقة لأي التزامات تُطرح خلال الزيارة.

 

بهذه التوليفة، أرادت واشنطن إيصال رسالة واضحة: لبنان أصبح قضية استراتيجية على كل المستويات، وأن الدعم الأميركي لن يكون ظرفياً أو جزئياً، بل جزءاً من خطة شاملة تربط بين السياسة والأمن والاقتصاد.

 

• توقيت حسّاس ورسائل واضحة

 

الزيارة جاءت في وقت تتصاعد فيه الضغوط الإقليمية على لبنان، خصوصاً في ما يتعلق بخطة الدولة لنزع السلاح غير الشرعي. دعم واشنطن للجيش اللبناني والشعب كان واضحاً، لكن أي مساعدات مستقبلية مرتبطة بالتزام الدولة بخطوات حصر السلاح واحتكار القرار الأمني. وأشارت السيناتورة جين شاهين إلى أن الجيش اللبناني يشكّل الركيزة الأساسية للاستقرار، وأن التزام الدولة بخطة نزع السلاح شرط أساسي لأي دعم أميركي.

السيناتور ليندسي غراهام ربط التعاون الدفاعي مع بيروت بتنفيذ خطة نزع السلاح، مشدّداً على أن أي دعما سيكون عبر المؤسسة العسكرية. من جانبه، أكد حزب الله موقفه الراسخ في الحفاظ على سلاحه، ما يضع الدولة اللبنانية أمام تحديات كبيرة في تنفيذ أي خطة نزع للسلاح.

 

• الوثائق الأربع للزيارة

 

ويمكن اعتبار أن الوفد خرج بخلاصات يمكن اختصارها في ثلاث وثائق أساسية: وثيقة دعم خطة نزع السلاح، وثيقة المقايضة مع إسرائيل، ووثيقة الدعم الاقتصادي المشروط. لكنّ الزيارة أفرزت أيضاً وثيقة رابعة غير مكتوبة: وثيقة الأزمة الإعلامية.

1. دعم خطة نزع السلاح:

الرسالة الأولى والأكثر وضوحاً تمثلت في إعلان تأييد أميركي كامل للخطة التي يعدّها الجيش اللبناني لمعالجة ملف السلاح خارج إطار الدولة. المبعوث باراك قال من بعبدا إن الخطة ستُنجز مع نهاية الشهر وتُعرض على الحكومة فوراً، مؤكداً أنّ واشنطن تعتبرها «مفتاح استعادة السيادة».

أما السيناتور ليندسي غراهام فذهب أبعد من ذلك، عندما ربط مصير لبنان السياسي بقدرة الدولة على احتكار السلاح، مؤكداً أن نزع سلاح حزب الله يفتح الباب أمام انفتاح لبنان على السعودية وإسرائيل والولايات المتحدة.

2. المقايضة مع إسرائيل:

الجانب الأكثر حساسية تمثل في ما حمله باراك حول موقف إسرائيل. فقد لمّح إلى إمكانية انسحاب تدريجي من بعض المناطق الحدودية إذا التزم لبنان بخطة نزع السلاح. هذه الإشارة أخرجت إلى العلن صيغة «المقايضة» التي لطالما ترددت في الكواليس: تنازل لبناني عن سلاح الحزب مقابل مكاسب سيادية وحدودية. الشرط كان واضحاً: أي خطوة إسرائيلية ستأتي بعد تقدّم ملموس في التنفيذ اللبناني، ما يعني أنّ الكرة في ملعب بيروت لا تل أبيب.

3. الحافز الاقتصادي:

على الصعيد الاقتصادي، كشف باراك عن بحث سعودي – قطري بدعم أميركي في إنشاء منطقة اقتصادية خاصة في لبنان، شرط نجاح الخطة الأمنية. وقال: «لا يمكن للبنان أن يخرج من أزمته المالية من دون قرار سياسي شجاع. نزع السلاح يفتح الباب أمام استثمارات بمليارات الدولارات». هكذا ربطت واشنطن بين السيادة الأمنية والإنقاذ الاقتصادي، ما يجعل الصفقة مزدوجة: إصلاح أمني مقابل انتعاش مالي.

4. الأزمة الإعلامية:

ما طغى على أجواء الزيارة كان المؤتمر الصحافي في بعبدا. فعندما ألحّ الصحافيون بالأسئلة، فقد باراك أعصابه وقال بانفعال:

«اصمتوا… عندما يتحوّل الوضع إلى فوضى وحيوانية، سنرحل».

 

الكلام أثار عاصفة من الانتقادات واعتُبر إهانة للصحافة اللبنانية. واضطرت رئاسة الجمهورية إلى إصدار بيان اعتذار وتوضيح أكدت فيه احترامها للإعلام وأن ما صدر لا يعكس موقف الدولة اللبنانية. هذه الحادثة أظهرت حساسية اللبنانيين تجاه أي مسّ بكرامتهم الوطنية، وأيضاً ضعف الدبلوماسية الناعمة التي حاول الوفد الأميركي ممارستها.

 

• الأبعاد السياسية والاستراتيجية

 

من خلال ما حملته الزيارة، يمكن تلخيص أبرز الرسائل:

– إدخال لبنان في معادلة إقليمية جديدة، حيث لم يعد ملف السلاح شأناً داخلياً بل جزءاً من صفقة إقليمية مع إسرائيل والخليج.

– الجيش اللبناني أصبح مفتاح الحل، حيث أي دعم أميركي مرتبط بقدرة المؤسسة العسكرية على فرض سيادتها.

 

– الدعم مشروط بالسيادة والإصلاح، لا مساعدات مالية من دون خطوات عملية في ملف السلاح.

– تعثّر الدبلوماسية الأميركية أظهرته أزمة المؤتمر الصحافي، مما يسلّط الضوء على أهمية فهم المزاج الوطني اللبناني.

– الانقسام الداخلي واضح، بين من اعتبر الزيارة فرصة تاريخية ومن رآها تدخّلاً مباشراً يهدف لضرب المقاومة.

 

• هل يمتلك لبنان جرأة القرار؟

 

لم تكن زيارة الوفد الأميركي إلى بيروت مجرد محطة بروتوكولية، بل لحظة فاصلة وضعت لبنان أمام معادلة معقّدة: فرصة ثمينة من جهة، وتحدّيات مصيرية من جهة أخرى. فالعرض الأميركي المتكامل بأبعاده الأمنية والاقتصادية والسياسية يحمل إمكانية إعادة إطلاق مشروع الدولة وتعزيز موقعها السيادي، لكنه يبقى مشروطاً ومحاطاً بعوامل اهتزاز كثيرة، أبرزها موقف «حزب الله» الرافض والتشابكات الإقليمية مع إسرائيل.

في هذا السياق، يصبح السؤال الجوهري أبعد من مضمون الوثائق الأميركية: هل يمتلك لبنان القدرة على توحيد موقفه الداخلي، والخروج من أسر الانقسامات التي كبّلته لعقود، ليترجم هذه الفرصة إلى مسار إصلاحي جامع؟ أم أنّ الحسابات الضيقة ستدفعه إلى إضاعة ما قد يكون واحدة من آخر الفرص المتاحة للإنقاذ؟

الأكيد أنّ بيروت اليوم عند منعطف جديد، لكن القرار النهائي ما زال معلّقاً بين إرادة الداخل وضغوط الخارج. فهل يكتب لهذه الزيارة أن تكون بداية مسار تغييري، أم أنها ستنضم إلى أرشيف طويل من المبادرات غير المنفّذة؟