IMLebanon

الموازنة دخلت في بزار السياسة والنفط عقبة جديدة أمام إقرارها

 

لم يمرّ تصريح رئيس الجمهورية من الصرح البطريركي الأحد الماضي مرور الكرام، إذا توالت التصاريح من المعنيين إن بشكل خجول أو بشكل قوي كما فعل الوزير السابق أشرف ريفي والذي إتهمّ الرئاسة الأولى بقضم صلاحيات رئاسة مجلس الوزراء. وهنا يُمكن القول إن تحويل المُشكلة من مالية وإقتصادية بحت إلى مُشكلة سياسية قد يُعقدّ الأمور بالنسبة لمسار إقرار الموازنة.

 

فريق الرئيس الحريري لم يُعلّق على كلام الرئيس عون وإكتفى بالتلميح إلى أن التأخير آتٍ من المهلة التي طلبها حزب الله لدراسة الإقتراحات وأن الرئيس الحريري يسعى إلى كسب الإجماع على الموازنة قبل الدخول بها إلى مجلس الوزراء. والملاحظ أن موقف الرئيس برّي يُحاكي موقف رئيس الجمهورية من ناحية الإستعجال في إقرار الموازنة في مجلس الوزراء عبر قوله «عجّلوا بالموازنة، ولا تتأخّروا فيها، وبلا تضييع وقت، صرنا محشورين بالوقت الذي يداهمنا، فمجلس النواب ينتظر، وهناك مهلة محددة للاجازة للحكومة الصرف على القاعدة الاثني عشرية تنتهي في 31 ايار المقبل، ويُفترض قبل هذا التاريخ ان يكون مشروع الموازنة قد أنجز واحيل الى المجلس النيابي، الذي يحتاج الى شهر على الاقل لدراسته في اللجنة المالية قبل احالته على الهيئة العامة للمجلس».

 

الموقف الذي أطلقه الرئيس عون لا يدخل في خانة مُصادرة صلاحيات رئاسة الوزراء ولا الحكومة بل هو تأكيد على دور الرئاسة الأولى المؤتمنة على الدستور وما التأخير بإقرارها إلا مخالفة لهذه الأخير الذي أقسم الرئيس عون اليمين بالحفاظ عليه. من هنا تأتي شرعية تصريح الرئيس عون.

 

هناك إجماع على ضرورة التقشّف وهذا الأمر أصبح من المُسلّمات، إلا أن المُشكلة التي تُعيق إقرار الموازنة تكمن في الإجراءات التقشّفية الواجب إتخاذها لخفض عجز الموازنة.

 

الصراع القائم حاليًا هو صراع بين فكرين: الأول رأسمالي والثاني يساري. فالفكر الرأسمالي يُريد تحميل إجراءات التقشّف على عاتق المواطن بالدرجة الأولى بحكمّ أن الإجراء التقشفي الذي يطال المواطنين هو ما يؤمّن التوفير المنشود نظرًا إلى العدد الكبير للمعنيين. أمّا الفكر اليساري فيهدف إلى تحميل إجراءات التقشّف للمصارف بالدرجة الأولى كما وأصحاب رؤوس الأموال.

 

حزب الله على لسان أمينه العام قال إن هناك ثوابت لا يُمكن المسّ بها: أولا عدم المسّ بالفئات الفقيرة وذوي الدخل المحدود، وثانيًا عدم فرض أي ضرائب جديدة عليهم. هذا الموقف كان أيضًا للعديد من الأحزاب التي أكدّت على عدم قبولها بفرض ضرائب على الطبقة الفقيرة وذوي الدخل المحدود.

 

لكن هل يُمكن إقرار موازنة تلجم عجز الموازنة ويكون لها مصداقية تطبيقية على الأرض أو أن مأساة موازنة العام 2018 ستتكرّر من ناحية أن التنفيذ أتى مغايرًا لما هو على الورق؟

 

الجواب ليس بالسهل خصوصًا أن الحكومة لا تملّك إلا سبعة أشهر لتنفيذ الإجراءات التي ستُتّخذ في موازنة العام 2019. وهذا يعني أنه من دون ضرائب هناك شبه إستحالة لإقفال هذا العام بعجز يوازي أو أقلّ من عجز العام 2018!

 

فالضرائب لها مفعول فوري على مداخيل الخزينة وبالتالي فإن فرض الضرائب إلزامي لكي يتمّ جمعّ مبلغ (على فترة سبعة أشهر) يستطيع تأمين المطلوب للجم العجز على كامل السنة. في حين أن الإجراءات التقشّفية التي تطال كل القطاع العام لن تكون إلا على سبعة أشهر فقط وبالتالي قد يكون الحديث عن الأرقام المُتداولة التي يُمكن توفيرها غير دقيق نظرًا إلى أن التقشّف لا يطال إلا سبعة أشهر من السنة (على إعتبار أن الموازنة أقرّت في نهاية شهر أيار). وبالتالي يجب ضرب هذه الأرقام بـ 0.6 لكي تكون الحسابات أكثر دقّة. كذلك الحال بالنسبة إلى الإيرادات من الضرائب التي يُمكن فرضها.

 

إذن يظهر مما تقدّم أن المُشكلة هي في إيجات تخفيضات وضرائب تضّمن خفض العجز إلى ما دون الـ 9% من الناتج المحلّي الإجمالي مع إحترام القيود التالية المفروضة من قبل الأحزاب ولكن أيضًا من عامل الوقت:

 

أولا- عدم فرض ضرائب على الفقراء وذوي الدخل المحدود؛

 

ثانيًا- عدم شمول الإجراءات التقشّفية هذه الطبقة؛

 

ثالثًا- كل الحسابات من ضرائب وتقشّف يجب أن تتمّ على فترة سبعة أشهر من السنة وليس على السنة بالكامل؛

 

في الواقع إن هذه القيود ستحدّ من قدّرة الحكومة على إيجاد صيغة تسمح لها بتخفيض العجز إلى المستوى المطلوب.

 

الضرائب على المصارف اللبنانية لن تتغيّر تحت طائلة مخالفة الدستور (المُساواة)، لكن المطلوب من هذه المصارف بحسب التسريبات أن تُقرض الدوّلة مبلغاً من المال بفائدة مُتدنيّة قد تكون صفر بالمئة أو قريبة منه. وهنا سؤال جوهري: هل المبلغ الذي سيتمّ إقراضه من قبل المصارف هو من أموالها الخاصّة أم من أموال المودعين؟ إذا كان من أموالها الخاصّة وهنا نرى محدودية نظرًا إلى أن رأسمال القطاع المصرفي لا يكفي لتلبية حاجة الدولة، سيتمّ إضعاف هذا القطاع حكمًا. أما إذا كان المبلغ المنوي إقراضه للدوّلة اللبنانية هو من أموال المُودعين، فهذا يعني أن المودع لن يتقاضى فوائد وبالتالي هناك إحتمال لهروب رؤوس الأموال إلى خارج لبنان.

 

من جهة المُتموّلين يُمكن فرض ضرائب على فئات منهم بحسب نوع العمل من دون مخالفة الدستور والقوانين المرعية الإجراء. فعلى سبيل المثال، هناك عدد ضئيل من الشركات التي تُسيطر على سوق الإستيراد في لبنان وبحكم هذا الإحتكار يُمكن فرض ضرائب عليها بحسب نشاطها الإقتصادي بنسبة أعلى من غيرها خصوصًا أنها إستفادت من خفض الأسعار عالميًا ومن إنخفاض أسعار النفط منذ العام 2014 من دون أن ينعكس هذا الإنخفاض في الأسعار داخليًا. وبالتالي تكون مساهمة هؤلاء عادلة نسبة إلى باقي المكُلّفين. أيضًا يُمكن ذكر المكتومين الذي لا يمتلكون أرقامًا في وزارة المال من خلال إلزامهم دفع الضرائب على نشاطاتهم الإقتصادية علمًا أن نسبة هذه النشاطات توازي الـ 38% من الإقتصاد اللبناني وهم لا يُصرّحون بها إلى وزارة المال.

 

الضرائب على المواطن تُبرّر من خلال عدد المواطنين إذ أن ضريبة ولو ضئيلة تسمح للحكومة بجمع مبالغ كبيرة قد تكفي للجم العجز في الموازنة إلى المستوى المطلوب. إلا أن المُلفت هو أن وضع ثوابت بعدم المسّ بالطبقة الفقيرة يحدّ من حجم الأموال التي يُمكن إستيفاؤها من هذه الضرائب، فالطبقة الفقيرة في لبنان تُشكّل 31.59% من إجمالي الشعب اللبناني كما أن الطبقة الغنية أو الميسورة تُشكّل 5 إلى 10% من الشعب مما يعني أن العبء سيكون على الطبقة المُتوسطّة بالدرجة الأولى وهي الطبقة التي تؤمّن الإستهلاك (مُحرّك النمو الإقتصادي). بمعنى أخر، إن فرض الضرائب على هذه الطبقة سيكون له تداعيات على النمو الإقتصادي خصوصًا إذا ما عمدت الدوّلة إلى خفض المُستحقات للموظفين في القطاع العام.

 

من هنا يبرز إلى العلن أهمّية ملاحقة الفساد في الشق المُتعلّق بالمال العام وبالتحديد مداخيل الدوّلة. وهذا الأمر لم يعد خيارًا بل أصبح إلزاميًا لأن عدم القيام به يعني المواجهة بين الشعب والسلطة السياسية أو بين المُجتمع الدوّلي والسلطة السياسية.

 

وما يُصعّب الأمور أكثر هو دخول عامل النفط على هذا الملف من الباب الواسع. فالرئيس الأميركي دونالد ترامب صرّح بأنه لن يُجدّد الإستثناءات للدوّل التي كانت تستورد النفط الإيراني وبالتالي فإن الأسواق المالية ستشهدّ إرتفاعًا في أسعار النفط مما يعني إرتفاع الكلفة على خزينة الدوّلة اللبنانية وعلى المواطن اللبناني. بمعنى أخر يأتي عامل النفط ليفرض على الحكومة إعادة حساباتها في الموازنة من الصفر مع إلزامية إيجاد مداخيل إضافية للموازنة أو خفض إضافي في الإنفاق لكي يتمّ إمتصاص تداعيات إرتفاع أسعار النفط. الكلّفة المُقدّرة لإرتفاع أسعار النفط هي بحدود الـ 300 مليون دولار أميركي في حال إرتفع سعر برميل النفط الخام الأميركي 4 دولارات. وهذا يعني أنه لا يُمكن للحكومة تجاهل هذا البند خصوصًا أن العقوبات على سوريا تزيد من إستيراد لبنان من المُشتقات النفطية وبالتالي فإن أسعار الإستيراد لهذه المُشتقات مُرشّحة للإرتفاع أكثر.

 

يبقى القول إن لبنان يعيش مرحلة صعبة ما بين مشاكله الداخلية والتجاذبات الإقليمية وهذا الواقع يزيد من الإشاعات عن إفلاس قريب للدوّلة اللبنانية وإنهيار للعملة الوطنية، لكن هذه الإشاعات التي تخدم أهدافاً سياسية بحتة لا تعكس الواقع على الأرض. صحيح أن خزينة الدوّلة شبه فارغة وصحيح أن الوضع المالي صعب ويجب خفض الإنفاق ومحاربة الفساد، إلا أن ما تتناساه هذه الشائعات عن قصد أو عن جهل هو أن حجم القطاع المصرفي اللبناني يفوق الـ 235 مليار دولار أميركي، وأن لبنان يتمتّع بثروة نفطية وغازية تؤمّن بالحدّ الأدنى 200 مليار دولار أميركي صافي للخزينة العامّة، وأن الدوّلة تمتلك أصولا تزيد عن العشرين مليار دولار أميركي وأن الناتج المحلّي الإجمالي يفوق الـ 50 مليار دولار أميركي وأن المُغتربين يُرسلون ما يزيد عن 8 مليار دولار أميركي سنويًا. كل هذا مقارنة بدين عام يُقارب الـ 90 مليار دولار أميركي. إذًا لبنان ليس ببلد مُفلس وكل الإشاعات التي تطاله هدفها ضرب الكيان اللبناني اللهم قد يكون بهدف توطين النازحين واللاجئين وللأسف في بعض الأحيان بأيدٍ لبنانية.

 

لبنان ليس ببلد مُفلس، لبنان بلد يعومه الفساد ويقضي على مقوماته المالية وبالتالي مطلوب من السلطة السياسية مُعالجة صلب المُشكلة أي الفساد وليس الإختلاف على الأمور الثانوية. وكل الإجراءات الأخرى للجم العجز هي إجراءات مُرحّب بها شرط أن تكون ثانوية نسبة إلى محاربة الفساد. الجدير ذكره على هذا الصعيد أن أحد شروط مؤتمر سيدر الإصلاحية تنصّ على إعتماد شفافية أكبر في إعداد الموازنة العامّة.

 

قد يكون تصريح رئيس الجمهورية من بكركي الأحد الفائت قد هدف إلى التصويب على هذه النقطة من خلال قول «نعرف على من نفرض ضرائب»، إلا أن العبرة في التنفيذ خصوصًا مع التجاذبات السياسية القائمة والتي قدّ تُعقّد من عملية الإقرار هذه.

 

وفي الختام، دخلت السلطة السياسية في مرحلة صعبة قد تقودها إلى تغيير نهج الإدارة العامّة والمالية العامّة وهذا الأمر يُبشّر بأن الدوّلة عائدة إلى مجّدها ما قبل الحرب الأهلية وأن لبنان سيكون جنّة للعيش فيها.