IMLebanon

حال “الطائفية اللبنانية”

   

وجه الرئيس اللبناني ميشال عون، بعد أن وقع قانون نشر الموازنة في 31 تموز (يوليو) الماضي، رسالة إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري، دعا فيها إلى مناقشة المادة 95 من الدستور، معطوفة على الفقرة “ي” من مقدمة الدستور.

 

 

انصب طلب رئيس الجمهورية على اعتبار إشارة المادة 80 من الموازنة إلى قبول الناجحين في امتحانات مجلس الخدمة المدنية للتقدم إلى ست دوائر حكومية “بمثابة خرق للفقرة ي” من مقدمة الدستور التي تقول: “لاشرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العمل المشترك” وللمادة 95 التي تفيد بأنه “في المرحلة الانتقالية نحو إلغاء الطائفية السياسية، تكون المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في وظائف الفئة الأولى ولا يعتمد ذلك في الوظائف الأدنى”.

 

يرى الرئيس اللبناني أن المرحلة الانتقالية التي حددها “اتفاق الطائف”، الذي تحول إلى دستور للبنان بعد موافقة مجلس النواب عليه في الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) 1989، لم يتم بعد وضع خطتها المرحلية، ولم يتم البدء بها حتى تاريخه. وبالتالي، فإن اقتصار المناصفة على وظائف الفئة الأولى وعدم شمولها الفئات الأدنى، يعتبر “مخالفاً للدستور” ومن ضمنها تلك المشار لها في تعيينات المادة 8 من الموازنة التي تشمل وظائف مثل حراس الغابات وأخرى مشابهة.

 

تحمل رسالة عون تهديداً مبطناً عندما تقول: “مع حفظ حقنا وواجبنا الدستوريين من موقعنا ودورنا وقسمنا باتخاذ التدبير الذي نراه متوافقاً والدستور في المسائل التي أثرنا في رسالتنا هذه”. في اليوم التالي، ووفي مقابلة تلفزيونية مليئة بالهجوم على التيار العوني اعتبر رئيس “حزب القوات اللبنانية” سمير جعجع أن التسوية بينه وبين العماد ميشال عون التي قادت في عام 2016 إلى انتخاب الأخير رئيساً للجمهورية كانت بمثابة إعادة للتوازن الذي انكسر بين المسلمين والمسيحيين في لبنان ما بعد الحرب الأهلية من خلال انتخاب “رئيس قوي”.

 

اتفق الخصمان اللدودان عون وجعجع (اندلعت بينهما “حرب الإلغاء ” في عام 1990 بسبب تأييد جعجع لاتفاق الطائف ومعارضة عون له)، اتفقا على أن تجاوز ما سمي بـ”الإحباط المسيحي”، الذي تمثل بنفي عون إلى فرنسا بعد إخراجه من قصر بعبدا في 13 تشرين الأول (أكتوبر) 1990 من قبل القوات السورية وسجن جعجع في عام 1994، لم يتم حتى انتخاب ميشال عون رئيساً.

 

كان ملفتاً في الرسالة المذكورة تحجج الخصم اللدود لـ “اتفاق الطائف” بما تضمنه نصه، وطلبه “المناصفة بين المسلمين والمسيحيين” التي أقرت كمبدأ في “الطائف” لتأكيد التوازن بين الطائفتين في تركيبة الدولة اللبنانية، وهو ما كان موضع احتجاج عون على الاتفاق عند مولده عام 1989، وكان حينها رئيساً لحكومة عسكرية، وتأكيده على ميثاق العام 1943، الذي كان يعطي المسيحيين أرجحية لبنانية، وبالذات من خلال صلاحيات رئيس الجمهورية.

 

ما يلفت النظر أكثر، ليس مضمون رسالة عون وحده، بل الحركة التي أراد من خلالها رئيس الجمهورية اللبنانية تأكيد تجاوز ضعف موقع الرئاسة في جمهورية الطائف اللبنانية، ليس فقط في وجه فقط خصوم التيار العوني مثل “تيار المستقبل” و”الحزب التقدمي الاشتراكي”، بل أيضاً حليفه “حزب الله”، الذي لا يوافق عون على تفسيره للمادة 95.

 

في المضمون، هناك دلالة على أن دولة تعتمد تركيب المكونات الدينية – الطائفية، وليس الفرد – المواطن كمقياس لملء مقاعد السلطة والإدارات، لا يمكن أن تصل من خلال هذا الطريق، لا عبر مرحلة انتقالية ولا غيرها، إذا لم تكن قادرة على البدء بالانتقال نحو الغاء الطائفية السياسية.

 

ما ترمز إليه رسالة الرئيس اللبناني، خصوصاً عندما يحتج الرأس الرسمي للدولة اللبنانية على تعيينات لا تعتمد المناصفة في وظائف مثل وظيفة حراس الغابات، بكل ما يعنيه هذا من معاني، ليس مجرد بحث شعبوي عن إرضاء غرائز الشارع المسيحي، الأمر الذي لا ينطبق على العماد ميشال عون بل ربما وعلى الأرجح ينطبق على جبران باسيل خليفته في رئاسة “التيار الوطني الحر”، إذ أن مرشحي تيار عون، ومن خلال مسيرته بعد عودته من منفاه الباريسي في عام 2005 احتلوا موقع الكتلة النيابية الأولى بين الأصوات المسيحية في ثلاث انتخابات نيابية، لأن ميشال الأخير عبّر عن “المسيحي القوي” وشكّل رمزا له.

 

في مضمون رسالته، والحركة التي قام بها من خلالها، أراد عون التأكيد أن موقع الرئاسة هو الأقوى في هرم السلطة اللبنانية، وليس كما كان الحال بين الرئيسين الراحلين رفيق الحريري وإلياس الهراوي مثلاً.

 

في هذا الصدد، يمكن القول إن الرسالة تعبر عن أزمة الحال الطائفية اللبنانية وأيضاً عن أزمة “نظام الطائف” اللبناني التي تشبه أزمة نظام ميثاق العام 1943. وعلى رغم أن نظام “الطائف” اللبناني لم ينفجر كانفجاري العامين 1958 و1975، لكنه يبدو مأزوماً بما يكفي، كما في أزمتي 1969 و1973 في عهدي الرئيسين الراحلين شارل الحلو وسليمان فرنجية.

 

الحقيقة أن العماد ميشال عون لم يصعد إلى منصب الرئاسة اللبنانية عبر قوة مسيحية متنامية، بل عبر رافعة تحالفه مع “حزب الله” منذ العام 2006، وهو ما أقر به سعد الحريري كأمر واقع في تسوية العام 2016 الرئاسية. وبالتأكيد، كان سمير جعجع أثناء “اتفاق معراب” (بين القوات والعونيين) يفكر في ميشال عون كـ “رئيس قوي” لتجاوز “الإحباط المسيحي”. ولكنه كان يدرك أن “تفاهم كنيسة مار مخايل” الذي جرى في 6 شباط (فبراير) 2006 بين حسن نصرالله وميشال عون هو الذي سيعيد عون إلى قصر بعبدا، وأن “حزب الله” هو الذي كان وراء فرض الفراغ الرئاسي اللبناني الذي استمر لمدة عامين ونصف، من أجل جعل انتخاب عون ممراً اجبارياً لإنهاء ذلك الفراغ.

 

عطفاً على كل ذلك، تحمل رسالة عون الأخيرة الكثير من علامات التساؤل، ما دامت لا تتفق مع رؤية حسن نصرالله للمادة 95، ولا تتفق أيضاً مع رؤية حليف نصر الله، الرئيس نبيه بري. وفي الوقت ذاته ستجعل عون في وضعية فراق مع الحريري وجنبلاط، من دون ضمانة لاقتراب جعجع منه، ولو أن الرسالة المذكورة تلاقي هوى في نفس الأخير.

 

السؤال الآن: هل يمكن تفسير رسالة ميشال عون، التي وصفتها صحيفة لبنانية بـ”الاستفاقة المسيحية”، بما نشرته “الدولية للمعلومات” عن أن الاختلال الديموغرافي بين المسلمين والمسيحيين في لبنان وصل إلى حدود كبيرة، إذ بيّنت أن نمو عدد المسيحيين في عام 2018، لا يتعدى نسبة 17,45 في المئة مما كان عليه عددهم في عام 1932، فيما بات المسلمون يشكلون 78,51 في المئة؟

 

*كاتب سوري