IMLebanon

المواجهة تقترب في العراق

 

 

 

يكشف الاستفتاء الكردي حول الاستقلال في العراق يوماً بعد يوم حجم الهاوية التي تفصل بين العراقيين، لا بل بين العرب والأكراد في الإقليم. فالأصوات العربية المؤيدة الاستفتاء قليلة وخجولة ومقيدة، فيما رفع اقتراب الموعد من منسوب الخطاب القومي الكردي، ما جعل المناسبة منصة تراشق قومي غير مسبوق بين الجماعتين على ضفتي الحدث.

لكن الاستفتاء كشف أيضاً عن تفكك آخر، ذاك أن العراق الذي تحصل في رحابه معركة كبرى ضد «داعش» تخوضها قوى ملتبسة الهوية الوطنية والمذهبية، دولة تتخبط في أكثر من وجهة فشل. فشل اقتصادي بفعل تداعي أسعار النفط، وفشل سياسي كشفته انقسامات على مختلف المستويات، وفشل سيادي يتمثل في تصدر نفوذ قوى إقليمية قراره السياسي. وجاء الاستفتاء ليدفع عناصر الوهن هذه إلى أقصاها. فالسجال الذي يحف بالحدث حُمل على لغة سياسية وانقسامية تُشعر المرء بأن عراق سايكس بيكو لم يلتئم يوماً، وأن الخطاب «الوحدوي» القسري والدموي كان حاجة هذه الوحدة التي تترنح اليوم.

هناك رفض عربي عميق ثقافي وقومي وسياسي لأي خطوة كردية نحو الاستقلال. في العراق اختبر هذا الأمر على نحو قاطع، وفي سورية تلوح مؤشرات مشابهة. الأصوات العربية المؤيدة حق الأكراد في تقرير مصيرهم خافتة ومشروطة ومُدانة على نحو مضاعف. لا بيئة تستقبلها بصفتها صوتاً يملك حق الاختلاف، وهي إن وجدت فهي امتداد للصوت الإسرائيلي الذي أعلن وقوفه إلى جانب استقلال الأكراد. وفي مقابل هذا، كشف الاستقلال أيضاً عن شوفينية كردية أعلنت عن أن رغبتها في الاستقلال صادرة عن صوابية كردية في الانفصال عن الشر. فماذا لدى العرب سوى المذهبية و «داعش» والحشد الشعبي؟ الاستقلال وفقها لحظة افتراق عن هذه المؤشرات الجوهرية في الثقافة العربية.

لا أكراد مع الاستقلال إلا بصفته القومية والسلبية. بصفته مغادرة لحاضنة عربية. ولا عرب ضد الاستقلال إلا لأن الأخير خطوة باتجاه ضرب هيمنة تاريخية وثقافية. السجال في محيط الحدث ومن حوله يؤشر إلى ذلك. اللغة التي يستعين بها طرفا السجال ترد الانقسام إلى أصله في لاوعي الجماعتين، إذ تخرج الكلمات من الصدر مباشرة إلى اللسان، من دون عبورها في العقل. وهذا تمرين على قساوته وفضاضته وخطورته مفيد أيضاً، ذاك أنه يُزيح عن المشاعر كماً هائلاً من التقية التي كانت مارستها الجماعات في المنطقة حيال بعضها بعضاً على مدى قرون.

شوفينية عربية في مقابل شوفينية كردية. شوفينية السلطة المتداعية في مقابل شوفينية الضحية المستعدة للإنقضاض. لا مكان للمجاملات والصداقات التي انعقدت حول هذه العلاقة المريضة. الكل كشف عن وجهه. الكل قال كل شيء حيال الآخر. العربي مستعمر قبيح ومتخلف، والكردي لا يستحق أن يحكم نفسه وأن يستقل فيها.

أيام قليلة تفصلنا عن موعد الاستفتاء. ثلاثة نهارات وأربع ليال. وهذا وقت كاف لمشغلي خطاب الكراهية. ثمة حكومات أربع سيهزها الحدث، وثمة جماعات كردية أربع تنتظره.

المواقف تسير على نحو تصاعدي، وكل يوم يحمل ذروة جديدة في الانقسام. الجميع خائف. الأكراد لم يعد يمكنهم أن يتراجعوا والعرب والأتراك والإيرانيون يشعرون بأن خطر الانشقاق الكردي سيهز كياناتهم. الجماعات متماهية على نحو غير مسبوق مع مواقع حكوماتها. مسعود البارزاني نجح في جذب القوى الكردية المعترضة أصلاً على تفرده في السلطة وفي القرار، والحكومة العراقية (الشيعية) نجحت في اجتذاب السنة الذين تضطهدهم. خط انقسام يؤشر إلى مواجهة، وربما إلى حرب.

الاستفتاء اختبار لمستوى انقسام لم تختبره أجيال جديدة. العروبة إذاً معطى ليس «وهمياً»، والكردية في المقابل تغذت على هذه الحقيقة وانبعثت على نحو مشابه.

الوقت لم يعد يتسع لصوت العقل، ولمراجعة في المواقع والمواقف. الأكراد لا يستطيعون أن يتراجعوا، والحكومات من حولهم لا تتحمل استقلالهم. المواجهة لن يحول دونها سوى اختراق أميركي لخط الانقسام الملتهب، وهذا ما لا يلوح حتى الآن.