IMLebanon

الإطار «الدفاعي» لسلاح «حزب الله» متوقّف على تخلّيه عن «الحروب الاستباقية»

الاضطراب الحاصل في الإقليم، انعكاسٌ وتصعيدٌ للاضطراب الحاصل على امتداد الكوكب، والبلد الذي تضرّرت تركيبته وحياته في السنوات الماضية تحت تأثير الحرب السوريّة المجاورة وتدخل «حزب الله» فيها إلى جانب قوات النظام والإيرانيين، وبفعل موجة اللجوء الديموغرافيّ السوريّ إليه، استطاع مع ذلك أن يحافظ على استقرار نسبيّ، يظهر من جهة كسريع العطب، ويظهر من جهة أخرى كما لو أنّ «يداً خفيّة» تُنجده عندما تنسدّ السبل أمامه عند كل عتبة، فيفتح له منفذ صعب من بعد إطالة، أو في ربع الساعة الأخير، كلّ مرّة.

بالنتيجة، تضرّر البلد بفعل الحرائق المشتعلة في الإقليم، وإنقسامه على خلفيتها، وإرتباط هذا الإنقسام بإنعدام توازن بين من يراكم مشروعاً مسلّحاً ومؤدلجاً بأيديولوجيا دينيّة خلاصيّة كفاحيّة فيه، وبين الآخرين، وبعدم اكتفاء هذا المشروع بالغلبة في الداخل، بل إيثاره التدخّل في البلدان العربية الأخرى، مرة لقمع انتفاضة شعبية ومرة لدعم أخرى، ومرة للمشاركة البرّية في حرب أميركية وروسية على التنظيمات المتطرفة، ومرة للمشاركة في دعم استئثار تنظيم فئوي متطرّف بمقدّرات بلد بأكمله.

مع ذلك، انوجد اللبنانيّون «الآخرون» في حيرة من أمرهم، فمن جهة، يبدو انهماك هذا المشروع في حروب الإقليم «مريحاً في مكان ما» للأوضاع المحليّة، حيث تخفّ وطأته عنها، لكن من جهة أخرى، هذه الشبكة الواسعة من التدخّلات والمغامرات تعكر العلاقات مع شعب هنا، ومع حكومة هناك، والأخطر أنّها تفرض على الدولة اللبنانية فصاماً في الموقع وفي الموقف، فهي في آن واحد ترى ولا ترى، وتسمع ولا تسمع، وتبرّر ولا تبرّر. أما المغامرات الإقليميّة لهذا المشروع فجعلته يمتلك أوراقاً إضافية في الداخل أيضاً، نظراً إلى ما أثّر ذلك على «الآخرين»، حلفاء أو أخصاماً له، فبان مفعماً بالحيوية القتالية هو، بخلافهم، لا يقلق على حصّة ولا على شعبيّة، يعطّل ما يريد ويسيّر ما يريد.

كلّ هذا والمشروع المسلّح المؤدلج يتباهى بإنتفاء الحاجة إلى إجماع وطنيّ حول سلاحه، ويصرّ على إلزام الحكومة بمقولات «تشرّع» سلاحه، وتماشي بالتالي التبرير العبثيّ لتأجيل تسليم الدولة مقاليد تقرير الحرب والسلم وحصرية السلاح الشرعي في قواتها المسلّحة إلى حين تصير هذه الدولة «قوية قادرة»، كما لو أنّه يمكنها أن تصير كذلك والحالة مستمرة على ما هي عليه، لا حكم قانون بمستطاعه التسيّد على كل أراضيها، إلا بالتفاوت والإجتزاء والتقلّب، ولا حدود وطنية يمكنها أن تسائل الرهط الذاهب للقتال في سوريا المجاورة، ولا سياسة خارجية، بل جملة ضغوط من مصادر دولية وإقليمية مختلفة تنحاز الديبلوماسية اللبنانية إلى بعضها أكثر من البعض الآخر.

إلى حد كبير، يمثّل استفحال هذا المشروع تراثاً متراكماً. فالاحتلال الإسرائيلي لم ينقضِ بتوقف الحرب الأهلية في الداخل اللبنانيّ، وسلاح «حزب الله» استُثني من موجبات حل الميليشيات على هذا الأساس، أما الحرب الأهلية فاستُبدلت سريعاً بالوصاية السوريّة، وبعد أن كانت الوصاية «مكتفية» بالهيمنة على البلد من خلال إدارة أزمات الحكم فيه، فقد انبثق عنها «نظام أمني» تابع لها، سرّع من دون أن يقصد نهايتها. كل هذا سمح بتنامي مشروع «حزب الله» أكثر فأكثر، والحروب الإسرائيلية عليه وعلى الجنوبيين واللبنانيين ككل، لم تزده إلا قوة، وكذلك الإنسحاب الإسرائيلي من الجنوب زاده قوة، إذ طرح نفسه كصاحب السيادة في المناطق المحررة، وحتى الجلاء السوريّ عن لبنان زاده قوة، إذ طرح نفسه كوريث للوصاية. جاءت نتيجة حرب تموز التي تلت أسر الحزب لجنديَّين اسرائيليَّين كنتيجة مركبة بالنسبة إليه: من جهة، فرضت جملة ترتيبات «معيقة» لانفجار الجبهة الجنوبية مجدداً، ومن جهة أخرى أشعرت الحزب والمناخات الموالية له بأنّها ناجية من مؤامرة كونية استئصالية، فزاد هذا من الانشقاق الأهلي بين اللبنانيين، فنصفهم عينه ثابتة على الاغتيالات المتسلسلة لرموز الاستقلال الثاني، والنصف الآخر عينه ثابتة على تجربة حرب تموز. زادت أسلحة الحزب وقدراته بعد حرب تموز، لكن الوضع جنوب الليطاني صار أكثر تعقيداً، ودفعه هذا الإحساس بالاقتدار في مقابل إيصاد منفذ تصريف هذا الاقتدار أمامه إلى الاستدارة نحو الداخل، ثم نحو «المهمات» في البلدان العربية الأخرى.

بما أنّه تراث متراكم إلى هذا الحد، لا يمكن معالجة مشكلاته بجرّة قلم، أو في فترة محدودة. بل أن المعالجة هي سير عسير بين مستحيلات عدّة، أوّلها استحالة «استئصاله» من الوجود، واستحالة «تحوّله» التدريجي من حزب مقاتل يُدين بعقيدة ولاية الفقيه إلى حزب سياسي محافظ. بين هذه الإستحالات يبقى فضاء للإمكان، للمحاولة. قد تكون من علامات المحاولة، البحث في ما يقوله الرئيس الايراني حسن روحاني اليوم عن الطابع الدفاعي لسلاح «حزب الله» عن نقطة مفيدة لتجاوز الصدامات الداخلية والاقليمية بصدده. ربط هذا السلاح بالأعمال «الدفاعية» فقط بمستطاعه أن يؤمن القاعدة الموضوعية للنأي بلبنان عن حرائق الإقليم. إنما بشرط أساسي: تحديد هذا النطاق الدفاعي. ذلك أنّه باسم «الحرب الاستباقية» تحوّلت هذه الأعمال الدفاعية إلى هجومية، وبعيدة المدى، وعابرة للبلدان. فهل بالمستطاع النأي بهذا الإطار الدفاعي لسلاح الحزب عن أي ذهنية «حرب استباقية» من أي نوع؟ هو التحدي اليوم.