IMLebanon

الحارس الأمين

 

نادراً ما يعقب رحيل شخصية عامة، بعد انسحابها من الحقل العام بسنوات غير قليلة، هذا القدر من الاهتمام الوطني، ومن التأثر وأكاد أقول من اللوعة والأسى.

 

من هنا كان السؤال الذي طرحه  عليّ ديبلوماسي أوروبي متجدد في ممارسة دوره في لبنان، إذ قال: صدّقني يا صديقي فأنا أحار في أن أشرح لإدارتي هذه «الظاهرة» التي تمثلت برد الفعل على وفاة البطريرك صفير. فكيف تفسر هذه الـظاهرة؟

 

قبل أن أجيبه استدرك قائلاً:  «اللافت أنّ اللهفة  عامّة في ظاهر الأمور! فالرجل»المئوي» أثار موجة شاملة من التأثر: لدى  المسنين والشباب. لدى الموالين والمعارضين. لدى الرجال والنساء، لدى 14 آذار و8 آذار. فما هو التفسير؟!

 

أجبته: عندما كتبتُ، في اليوم الأول، معقباً على تدهور حالة سيّدنا البطريرك، طرحتُ ما سألتني إيّاه. وقلت إنّ من يتناول البطريرك صفير يحار من أين يبدأ لكثرة ما تكتنز به شخصيته من مزايا وقيم. واليوم أردد أمامك هذا القول.

 

وأُضيف: إن أهم مزايا الراحل الكبير المثلث الرحمات الكاردينال البطريرك مار بطرس نصر الله صفير هو أنّه كان ثابتاً، صادقاً، لا ينتمي  الى اللاعبين والمتلاعبين. يقول كلمته كما يؤمن بأنه يجب أن يقولها.

 

ثم إن غبطته كان بوجهٍ واحد  ولسان  واحد. ليس فقط في إطلالاته العامة، بل أيضاً وخصوصاً في اللقاءات المغلقة. فما يسمعه منه هذا القيادي في 14 آذار هو ذاته ما يسمعه منه ذاك القيادي في 8 آذار. هذا الصدق أعطاه مناعة كبرى لا يدرك أهميتها إلاّ الصادقون.

 

الى ذلك فإنّ البطريرك الكبير الراحل كان لبنانياً في المفهوم الرسولي الذي تحدّث عنه البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني، فلبنان في يقينه، وفي يقين قداسة البابا وفي «الإرشاد الرسولي» من أجل لبنان هو أكثر من وطن إنه رسالة. إنه الوطن الذي ليس له مثيل في العالم كلّه.

 

إنه إذا صحّ قولي هو، بتكوينه، «طاولة حوار مستدامة». فاللقاء اليومي، والتفاعل المتواصل من دون أي انقطاع، بين المسيحيين والمسلمين في لبنان، هما ميّزة لبنانية ليس لها مثيل في أي بلد آخر في هذا  الكوكب.

 

وليؤذن لي أن أذكر، هنا وفي السياق ذاته، أن غبطته هنأني على محاضرة ألقيتُها في الكسليك حول التعددية في لبنان، فقد قلتُ في حينه (وما زلتُ مقتنعاً بقولي) إنّ المسيحي اللبناني هو أفضل مسيحي في العالم، والمسلم اللبناني هو أفضل مسلم في العالم وذلك بسبب (بل بــ»فضل») الاحتكاك الخلاّق اليومي بين طَيْفَيْ لبنان: الطيف المسيحي والطيف المسلم، فهذا الاحتكاك يولّد شرارات تصقل الشخصيتين اللبنانيتين الشخصية المسيحية اللبنانية والشخصية المسلمة اللبنانية.. وحتى لو تطورت الشرارات الى نار (1860 -1958-1975  وما بعدها…) فهذه النار من شأنها  أن تصهر الشخصيتين في بوتقة واحدة.. لذلك نرى أن أكثر من يتفهم الاسلام، من غير المسلمين، هم اللبنانيون المسيحيون، وأكثر من يتفهم المسيحية (من غير المسيحيين) هم اللبنانيون المسلمون.

 

ولعلّ الراحل الكبير، البطريرك صفير، هو أكثر من تمسك بهذه الصيغة اللبنانية الفريدة الفذّة… وأكثر من ذلك، كان رحمات الله عليه، بمثابة حارسها الأمين.

 

وقلت لصاحب السؤال: عساي أجبتك، جزئياً عن سؤالك… وثمة إجابات عديدة إضافية قد لا تتسع لها هذه العجالة.