IMLebanon

سوريا على حدّ الدستور

 

مثّلت الأحداث الدامية التي شهدتها محافظة السويداء أخطر مفصل في مسار الحكم الجديد الذي تشكّل بعد سقوط نظام بشار الأسد. هذه التطورات لم تكن مجرّد اضطرابات أمنيّة يمكن احتواؤها عبر المعالجات العسكرية التقليدية، بل تكمن خطورتها في أنها ذات جذور سياسية عميقة، وإن تظهّرت من بوابة أمنيّة.

 

لقد شكّل سقوط الأسد لحظة فارقة احتفى بها السوريون على اختلاف انتماءاتهم، واعتبروها نهاية لعقود من الاستبداد، وبداية لعهد يفترض أن يسوده القانون وتحترم فيه التعددية والحريّات. لكن سرعان ما بدأ يتلاشى هذا الأمل، مع إقرار دستور جديد وتشكيل حكومة بدت امتداداً للحكم في “إدلب”، وليس تعبيراً عن عقد اجتماعي جامع يعكس واقع البلاد بكامل أطيافها.

 

فقد اعتُبر الدستور الجديد والحكومة الناتجة عنه أقرب إلى مشروع تمّ تفصيله على مقاس “هيئة تحرير الشام”، من دون مراعاة لفروقات جوهرية بين النموذج الإداري والأيديولوجي الذي كان قائماً في “إدلب”، وبين شروط دولة تسعى لإعادة بناء نفسها على أسس الشراكة والمواطنة والديمقراطية.

 

رغم أنّ التحولات الإقليمية والدولية في المرحلة الأخيرة من الصراع السوري ساهمت في إبراز دور “هيئة تحرير الشام” وحلفائها من الفصائل المسلحة ذات الخلفيات العقائدية والتنظيمية المماثلة، فإنّ هذا الواقع لا يبرر منح هذه القوى موقعًا متقدمًا على باقي مكوّنات الشعب السوري في معادلة ما بعد الأسد.

 

فالمشهد السوري أكثر تنوّعًا وتعقيدًا من أن يُختزل في فصيل واحد أو تيار بعينه. لا يمكن القفز فوق حضور مكوّنات أساسية كالدروز، والأكراد، والعلويين، والمسيحيين، ولا حتى تهميش شريحة واسعة من أبناء الطائفة السنيّة الذين يختلفون مع هذه الجماعات فكريًا ويتمايزون عنها اجتماعيًا واقتصادياً.

 

كما أنّ في محاولة احتكار صياغة مستقبل سوريا – دستوراً ونظام حكم – وفقاً لرؤية ضيّقة تعكس مصالح “الهيئة” وأيديولوجيتها، تنكّر لتضحيات السوريين جميعًا على مدار عقود في نضالهم ضد الاستبداد، ومقدمة خطيرة لتفكك محتمل بدل أن تكون مدخلًا لوحدة وطنية حقيقية.

 

تشعر غالبية المكونات الطائفية والقومية في سوريا بأنّها مُهمّشة ومستبعدة من عملية صنع القرار، رغم المحاولات الشكليّة لإشراكها عبر منح بعض الشخصيات من هذه المكوّنات مناصب وزارية أو إدارية. إلّا أنّ الشراكة الوطنية لا تُبنى على الترضيات أو المِنَح، والانتماء لا يُفرَض بالإكراه.

 

إنّ الطريق نحو استقرار حقيقي ومستدام في سوريا لا يمرّ عبر الحلول الأمنية والعسكرية، ولا عبر الاستكانة للدعم الإقليمي أو التنازلات للقوى الدولية مقابل الحفاظ على السلطة. بل يبدأ بفتح حوار وطني شامل، تشارك فيه جميع المكوّنات السورية من دون استثناء، بهدف تبديد المخاوف، ومراجعة الدستور والعقد الاجتماعي بطريقة تضمن دور الجميع، وشراكة حقيقية في إدارة الدولة وصناعة مستقبلها.

هذا هو المدخل الرئيسي لتعزيز الشعور بالانتماء للدولة، وترسيخ مفهوم المواطنة، وبناء وحدة وطنية قائمة على المصالح المشتركة حول احترام الدستور والشرعية، بعيدًا من سيناريوات الاستئثار والتهميش التي تدفع بالبعض للبحث عن بدائل خطرة، سواء حمل السلاح أو الاستنجاد بجهات خارجية، لتحصيل الحقوق وحفظ الدور.

 

الحلّ عبر الوسائل الأمنية والعسكرية سيُعقّد الأمور، ويؤسّس لانفجارات لاحقة. احترام السلطة والقرارات والقانون من قبل جميع السوريين لا يمكن أن يحصل بالإكراه، بل نتيجة خيار حرّ بالانتماء لمؤسسات دولة تحفظ الشراكة والدور، والمدخل إلى ذلك هو الدستور.