IMLebanon

الوطن ضد المواطن

 

في بلادنا، غالباً ما ينتصر الوطن على المواطن. الأول هو مكان يعيش فيه سعيداً ويحكمه مديداً القائد- الرمز- الضرورة، الذي بعثه الخالق أو القدر أو التاريخ لينقذ هذه النواحي المهدّدة من أعداء الخارج وعصاة الداخل. جسامة المهمة التي يحملها الحاكم على كاهله وخطورة الأوضاع التي يأتي لتغييرها تجعله خارج النقد والمحاسبة والمساءلة، على ما ينبغي أن يخضع له خلق الله الفانون.

المواطن، في المقابل، هو ذلك النكرة الذي لا معنى لحياته ولا لكرامته والذي قد يموت دهساً في الطريق أو غرقاً في مركب مهاجرين، من دون أن يُعرف له أصل أو فصل ومن دون أن يطالب أحد بالعدالة له وإنزال العقاب بقتلته أو بمن يستغله حياً وميتاً. رقم زائد في لوائح الناخبين الغفل. واسم لا يعني شيئاً في قوائم الضحايا المجهولين.

الوطن في هذه الخريطة لا علاقة له بالمواطن وإن تشابه اللفظان. الوطن يتعرض لمؤامرات الأعداء حتى لو كانوا يدفعون بلايين الدولارات كمساعدات سنوية وحتى لو كان التنسيق الأمني معهم يجري في المسائل الأكثر حساسية، وتُعقد معهم الصفقات الضخمة التي يقول البعض إنها تمتهن كرامة الوطن قبل اقتصاده. لكن ضرورة إنقاذه من المؤامرات تُملي تمسك الحاكم بالسلطة ولو كان يفتقر إلى أي شكل من أشكال البرامج المستقبلية والرؤى لما يجب أن تكون عليه أحوال المواطن بعد عام أو عامين.

فالقائد يقود، ولا يلقي بالاً إلى صغائر وتوافه من نوع التعليم والصحة والسياسة. لو فعل ذلك لما كان قائداً ولتحول إلى رئيس عادي مثله مثل رؤساء تلك الدول السخيفة التي تعتبر أن مشاغلها الأساسية هي ضمان صحة ورفاه وتعليم وعمل مواطنيها. كيف لقائد أن ينزل إلى مستوى الرئيس- الموظف الباحث عن حلول لمشاكل الإسكان والبيئة والطاقة؟ لا! القائد شخص مختلف تمام الاختلاف. مهمته هي إفشال المؤامرات وتحقيق المكاسب الإستراتيجية التي، وإن لم يفهمها المواطن الجاهل، إلا أنها ترفع من شأن البلاد عالياً وتضعها في مصاف الدول الكبرى!

وما على المواطن إلا تفهّم هذه الحقائق وإن أعاقت بساطة تفكيره قدرته على إدراك الجوانب العميقة من خطة القائد. أما إذا خطر في بال هذا الكائن البائس أن يتطاول على أسياده القادة، فالتجارب الحديثة معروضة أمامه لتخبره عواقب التمرد. وإذا كان قادة الخمسينات والستينات العرب قد اكتفوا بالسجون وبزنازين المعتقلات لإفهام من يصعب الفهم عليه بأهمية عمل القائد وسمو مصلحة الوطن التي لا يفقهها إلا القائد، على كل مصلحة أخرى، فإن قادتنا الحاليين طوروا أساليب إقناعهم لتشمل الغازات الكيماوية والتغيير الديموغرافي والتطهير العرقي والطائفي. لكنهم، وبصفتهم ورثة أمناء لتقاليد الماضي المجيد، احتفظوا بالانتخابات كوسيلة لا غنى عنها يمنح بها القائد الشرعية للوطن، وليس العكس، كما اقترح ذات تنوير كتاب ومفكرون لم يعرفوا بواطن الأمور في بلادنا التي صنعت الحضارة ولا تحتاج إلى أفكار معلبة ومستوردة. فالشرعية، لا تصدر فقط من فوهة البندقية كما قال مؤسس الصين الشعبية. الشرعية تصدر من بين شفتي القائد أولاً. ولا بأس إذا جاءت البندقية لتؤكد ما تفضل به.

وهكذا تمضي أيامنا في سعادة متصاعدة من انتصار إلى إحباط مؤامرة إلى التصدي لعدوان غاشم. فلا يبقى لدينا إلا الموت فرحاً في أوطاننا المنصورة وتحت صور قادتنا الخالدين.