كلّما تعقّد الوضع اللبناني وتأزّم سواء في الحرب أو في زمن السّلم ـ إن كان ما نحن فيه يسمّى سلماً ـ يجري التسويق لاتفاقيّات بخطط دوليّة وعباءة إقليميّة عربيّة أنّ تسوية ما في الطريق، وللمفارقة يُصدّق اللبنانيّون البسطاء “الحكي عن التسويات” الذي لا يزال يتكرّر على مسامعهم منذ ثلاثة قرون على الأقلّ و”مش ماشي الحال”، نحن نعيش تهدئات وقتيّة تقتضيها الظّروف الدّوليّة، فعلى سبيل المثال لولا الحاجة الأميركيّة لساحة العراق ووضع يدها على منابع النّفط لما فكّرت بلملمة الحرب الأهليّة في لبنان وإطفاء نيرانها وترك التهدئة معلّقة من دون تطبيق اتفاق الطائف وتسليم لبنان للاحتلال السّوري ليرعاه لأنّ “قطعان الماعز” اللبناني لا تنضبط إلا بالقوّة!
لا يحتاج الأمر إلى كثير برهنة وتفكير فمدّ اليد إلى التّاريخ اللبناني ودمويّته حاضرة دائماً، هل علينا أن نسوق “تسوية” تقسيم لبنان إلى مقاطعتين أو قائمقاميتيّن، شماليّة يحكمها مسيحي وجنوبيّة يحكمها درزي، وكان الفضل في رضوخ السّلطان العثماني آنذاك لهذه التّسوية لولا خوفه من التدخّل الدّولي، ولكن هذه التسوية لم تخدم لبنان إلا 19 عاماً، وعادت الحرب والمجازر حتّى ولدت تسوية جديدة دوليّة مع “نظام حكم جديد” يعني “بدكن تقولوا “طائف 1861” وللمفارقة أيضاً كانت اللجنة التي توصّلت إلى التّسوية خماسيّة على الطريقة “الماكرونيّة” ـ الوسيط غير النّزيه ـ هذه الأيّام وكان أن اخترعوا لنا نظام المتصرفيّة، ولاحظوا هذا كلّه كان يقتصر على جبل لبنان والطوائف الباقية ملحقة بالدّولة العثمانيّة و”من دون وجعة راس”!
عام 1918 انتهينا من نظام المتصرّفية إلى نظام الانتداب الفرنسي ـ وهو أيضاً احتلال ـ وخدعونا بإعلان “دولة لبنان الكبير”، من يتابع التراشق على صفحات التواصل الاجتماعي يكتشف عميق صعوبة إكمال الشعب اللبناني مساره بنظام كلّ ربع قرن أو أقلّ أو أكثر، على إحدى الصفحات كان أحدهم من أنصار التقسيم والفدرلة يتباهى بأنّ الانتداب الفرنسي جلب إلينا “بيديه الحمّام” ـ أجلّ السّامعين ـ ثم ألقوا بنا بعد 23 عاماً في تجربة استقلال لبنان والجمهوريّة والدستور والصيغة والميثاق، وما لبثنا أن انزلقنا مع المنطقة في الصراع الأميركي ـ السوفياتي وتجليّاته الإقليميّة في الصراع العربي – الإسرائيلي، فوقعنا في فخ حرب صغيرة عام 1958 ثمّ ما لبثنا بعد 11 عاماً أن ألقي بلبنان في أتون هزيمة العام 1967 لندفع ثمن قيام المنظمات الفلسطينيّة المسلحّة التي موّل العرب حربها وسلاحها منذ عام 1969 ثم رماها الأردن في أيلول العام 1970 في وجه لبنان بعد اتفاق القاهرة حتى وصلنا إلى العام 1973، استثمرت القيادات السياسيّة اللبنانيّة في السّلاح الفلسطيني، كلّ النوّاب والسياسيّين والصحافيّين كانت لهم استزلاماتهم للتنظيمات الفلسطينية وقفوا ضدّ الجيش اللبناني عام 1973 بسبب عمليّة نفّذها كوماندوس إسرائيلي في قلب بيروت وهذه القيادات التي تحاملت على الجيش اللبناني كانت تلعب على أوتار الشعبويّة الطائفيّة، وتحولت بيروت بشرقها وغربها وعكار وطرابلس وصيدا وصور وكلّ مناطق لبنان إلى مستودع ذخيرة لأبو عمّار وميليشياته المتقاتلة بين البيوت اللبنانيّة، ولم نلبث بعد عامين أن سقطنا في بحر من دماء حرب أهليّة ادّعى أهل الحركة الوطنيّة أنّها لتغيير النّظام، كان المراد نظام ما انتهى بفشل ذريع مع دخول الاحتلالين السّوري والإسرائيلي، وصولاً الى عام 1989 وتسوية اتفاق الطائف التي سقطت مضرّجة بدماء الرئيس رفيق الحريري عام 2005 وصولاً إلى “تسوية الدّوحة” ولاحقاً “تسوية معراب وبيت الوسط”، والآن ماذا بعد؟!
هذه كلّها أوهام تسوية، والآتي أعظم فقنبلة الاحتلال السوري البشري جاهزة للانفجار في أي لحظة، ماذا الآن؟ الجميع بانتظار تسوية حسين أمير عبد اللهيان!