IMLebanon

الأزمة الإيرانية في العراق

 

باستثناء ثابت واحد، لا أحد يستطيع الإجابة عن سؤال في غاية البساطة: ماذا يجري في العراق؟

 

الثابت الوحيد أن إيران غير راضية عن نتائج الانتخابات التشريعية التي أجريت في الثاني عشر من أيّار (مايو) الماضي وهي مصرّة على أن يكون العراق مستعمرة تُدار من طهران، على الرغم من أن ذلك مخالف للطبيعة بكل المقاييس. نفّذت إيران انقلاباً على نتائج الانتخابات العراقية بغية تحقيق غرضها. يعود ما نشهده اليوم من فوضى على كلّ صعيد إلى أن فصول الانقلاب الإيراني تتوالى بسرعة وصولاً إلى البحث في تمديد ولاية مجلس النواب الحالي. هذا يعني صراحة فشلاً ذريعاً للنظام السياسي القائم الذي أسس له الاجتياح الأميركي في العام 2003.

 

أكثر من ذلك، لم يستطع الاجتياح الأميركي تحقيق أي هدف من الأهداف المُعلنة التي تحدّث عنها الرئيس بوش الابن وكبار المسؤولين في عهده، على رأسهم ديك تشيني الذي نظّر لقيام عراق جديد على أنقاض النظام الذي كان قائماً. فبعد مرور خمسة عشر عاماً على سقوط نظام صدّام حسين، لا يزال العراق يبحث عن نفسه. لم يطرأ أي تحسن على الوضع العراقي في غضون خمسة عشر عاماً. كلّ ما هو مطروح في الوقت الراهن، منذ بدأ التشكيك بنتائج الانتخابات بما في ذلك إحراق قسم من صناديق الاقتراع، يؤسس لحرب أهلية وليس لقيام دولة المؤسسات التي وعد بها الأميركيون. أطلق المسؤولون في إدارة بوش الابن كلّ أنواع الوعود في سياق تبريرهم للحرب على العراق.

 

وعدت الولايات المتحدة بأن يكون العراق نموذجاً لما يُفترض أن تكون عليه دول المنطقة، أي دولاً ديموقراطية لا تمييز فيها بين مواطن وآخر. تبيّن مع مرور الوقت كم كانت أميركا وشريكتها في الحرب، بريطانيا، تجهلان ما هو العراق.

 

ليس الانقلاب الذي نفذته إيران في العراق، على نتيجة الانتخابات تحديداً، سوى تعبير عن رفضها الاعتراف بالواقع المتمثل في أن العراق لا يمكن أن يُحكم من طهران. تبدو إيران في الوقت الحاضر أقرب إلى طفل انتزعت منه لعبة أو دمية كانت بين يديه. هذا ما يُفسّر إلى حد كبير تلك التصرفات الصبيانية التي في أساسها رفض الاعتراف بأن العراق هو العراق وإيران هي إيران. لم تقبل إيران واقعاً متمثلاً في أن العراق لا يمكن أن يكون لعبة لديها، أو مجرّد دمية، وذلك على الرغم من أنّها كانت المنتصر الوحيد في الحرب الأميركية التي اتخذ بوش الابن قراراً بشنّها استناداً إلى مبررات أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها واهية.

 

حسناً، لم يكن صدّام حسين قديساً. كان ديكتاتوراً بكلّ معنى الكلمة. كذلك لم يكن معروفاً أنّ لديه أيّ ثقافة سياسية من أيّ نوع باستثناء ثقافة القمع وإلغاء الآخر والجهل التام بموازين القوى الإقليمية والدولية. من لديه الحدّ الأدنى من الوعي السياسي لا يذهب إلى احتلال الكويت ثمّ يسعى إلى التفاوض مع الولايات المتحدة من منطلق أنّه في مركز قوّة.

 

لكن ما لا بدّ من الاعتراف به أن قسماً لا بأس به من العراقيين يترحّم حالياً على نظام صدّام. هذا هو للأسف الواقع الذي لا مفرّ من الاعتراف به من دون مواربة على الرغم من كلّ ما ارتكبه الرئيس الراحل من أخطاء. ترتقي أخطاء صدّام إلى مستوى الكارثة، وذلك بدءاً بعدم معرفته بانّه كان لا بد من ايجاد طريقة لتفادي الحرب مع إيران في العام 1980 بدل الذهاب بعيداً في الردّ على استفزازات نظام يحتقر جيرانه العرب من منطلق مذهبي. إنّه نظام كان يتمنى أصلاً مثل هذه الحرب كي يبعد الجيش عن داخل المدن.

 

في كلّ الأحوال، تحصد إيران حالياً في العراق ما زرعته بعدما اعتبرت أن أميركا خاضت حرباً من أجلها. صحيح أن الإدارة الأميركية سلّمت العراق على صحن من فضّة إلى إيران، لكنّ الصحيح أيضاً أن إيران لم تعرف ما تفعله بانتصارها. ظهر بوضوح أن العراق ليس لقمة سهلة يمكن ابتلاعها على الرغم من كلّ التسهيلات الأميركية التي مهدت للانتصار الإيراني. جاءت هذه التسهيلات في عهد بوش الابن عندما قرّر بول بريمر حلّ الجيش العراقي ثم إقامة مجلس الحكم على أسس مذهبية وطائفية. استكمل باراك أوباما مسلسل التسهيلات عندما قبل الانسحاب عسكرياً من العراق وتثبيت رجل إيران نوري المالكي رئيساً للوزراء للمرّة الثانية اثر انتخابات العام 2010 التي حلت فيها قائمة اياد علّاوي في المرتبة الأولى.

 

لم يعد العراق كما كان في الماضي القريب مصدراً لتمويل الميليشيات المذهبية التي ترعاها إيران في كلّ انحاء المنطقة. كشفت الانتخابات الأخيرة أن البلد ليس مفلساً فحسب، بل إن لا أحزاب سياسية فيه أيضاً قادرة على أن تكون في مستوى الأزمة الداخلية التي يعاني منها العراق. لا يمكن حلّ الأزمة الإيرانية في العراق بتحالف مخالف للمنطق بين مقتدى الصدر ومهدي العامري، وذلك كي تتمكن إيران من القول إنّ في استطاعتها استيعاب نتائج الانتخابات ومرحلة ما بعد الانتخابات. كذلك، لا يمكن لإيران أن تجد لنفسها مخرجاً عبر نسف كلّ ما نتج عن الانتخابات. فإذا كان من معنى للتقدّم الذي حققته قائمة «سائرون» التي تزعمها مقتدى الصدر، فإن هذا المعنى يكمن في وجود رغبة لدى العراقيين في الخروج من تحت الهيمنة الإيرانية حتّى لو كان ذلك عبر دعم مقتدى الصدر بكل ما يمثله ماضيه على صعيد التعاطي مع إيران وتنفيذ مآربها.

 

فوق ذلك كلّه، لا وجود لإدارة أميركية على استعداد لمساعدة إيران في العراق، خصوصاً بعد إعلان دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني.

 

في ظلّ هذه المعطيات، انكشفت إيران في العراق. تستطيع إيران أن تهدم. تستطيع تغيير طبيعة مدن ومناطق عراقية عن طريق عمليات تطهير ذات طابع مذهبي. تستطيع الاستعانة بـ«داعش» كي تقضي على مدينة عريقة مثل الموصل. لكنّ ذلك كله لا يعني أنّ لديها مستقبلاً في العراق.. هذا إذا كان للعراق مستقبل ما غير الذهاب إلى حرب أهلية. ستقضي مثل هذه الحرب على ما بقي من بلد كان في يوم من الأيّام، أي قبل العام 1958 ومجيء العسكر ثم البعث إلى السلطة، يمثل حالة فريدة في المنطقة. كان يمثل ذلك بفضل النسيج الاجتماعي في مدنه وما يمتلك من ثروات.. وبفضل جامعاته التي كانت من بين الأفضل في المنطقة كلّها.