أمام الاتفاق النووي الإيراني – الذي سمح لإيران قبل عامين بالعودة بقوة على الساحة الدولية رغم الانتهاكات التي تقوم بها في العراق وسوريا واليمن وغيرها – أكبر تحدياته مع توجه الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى رفض المصادقة على بنوده. ومع اقتراب موعد 15 أكتوبر (تشرين الأول) الذي بحلوله يجب أن يوقع ترمب مجدداً على الاتفاق للمصادقة عليه، من المتوقع أن تتجه الإدارة الأميركية إلى الإعلان عن عدم التزام طهران بـ«روح الاتفاق» الداعية للتعاون وتطوير برنامج نووي سلمي. وبخطاب مرتقب خلال هذا الأسبوع، سيكشف ترمب عن مراجعة السياسة الأميركية تجاه إيران، لتوضيح أسباب رفضه دعم الاتفاق الذي أبرم خلال إدارة سلفه باراك أوباما، بمشاركة الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وألمانيا.
ومنذ توليه رئاسة الولايات المتحدة، كان على الرئيس الأميركي المصادقة على الاتفاق النووي كل 90 يوماً، ضمن آلية وضعت لإقناع الشعب الأميركي، بأن الاتفاق يتضمن مراقبة مستمرة للبرنامج النووي الإيراني. وفي حال لم يصادق ترمب مجدداً على الاتفاق النووي، سيكون هناك 60 يوماً قبل اتخاذ الكونغرس أي إجراءات لازمة للخروج من الاتفاق وتقرير ما إذا كانت ستفرض عقوبات جديدة. وتسعى فرنسا وبريطانيا وألمانيا – الدول الموقعة على الاتفاق مع واشنطن وبكين وموسكو – إلى الخروج بصيغة مناسبة خلال تلك الفترة لإنقاذ الاتفاق. وهنا على الدول العربية النافذة في أوساط صنع القرار الأميركي والأوروبي أن تدفع بمصالحها، وهي التأكد من سلمية البرنامج النووي من جهة، والتشديد على ضرورة مواجهة التصرفات الإيرانية في المنطقة؛ من التهديد باستخدام صواريخ باليستية إلى جعل الميليشيات قوى تتنافس مع الجيوش العربية من جهة أخرى.
الفرق بين إدارتي الرئيس الأميركي السابق أوباما والرئيس الحالي ترمب هو أن الأولى كانت تستعجل إبرام الاتفاق وكانت طهران واعية لذلك تماماً، بينما الثانية تريد الخروج من الاتفاق وإفشاله، وذلك ما يجعل طهران في موقع الدفاع عنه والبحث عن حلول مجدية لإنقاذه. ولكن الواقع اليوم مختلف عما كان عليه في 2015، فكل من روسيا والصين والدول الأوروبية الثلاث لن تتراجع عن الانفتاح الذي جرى مع إيران، كما أن التخلص من العقوبات الدولية على إيران المرتبطة ببرنامجها النووي يعني أنه من الصعب إعادة فرض العقوبات. وهنا على الدبلوماسية العربية أن تلعب دوراً مهماً في تسليط الضوء على الدور الإيراني السلبي في المنطقة، وأيضاً الإجراءات الممكنة لردعها، مثل دعم قوى الاعتدال ومنع تسليح الميليشيات ومحاسبة الحرس الثوري دولياً.
الإيرانيون يعلمون أنهم يواجهون إدارة أميركية عليمة بما يقومون به، خصوصاً في العراق وأفغانستان، حيث قتلت القنابل الإيرانية المئات من الجنود الأميركيين، وتركت مثل هذا العدد أو يزيد مبتوري الأطراف، أو يعانون من إصابات جسيمة. وعلى الدول العربية المتأثرة من أفعال إيران أن تظهر رغبتها في صد التصرفات الإيرانية، ولكن بطرق شرعية متناغمة مع المجتمع الدولي.
العديد من الدبلوماسيين الأوروبيين يعملون على تقوية الاتفاق النووي ليشمل جانباً آخر مقلقاً من التصنيع العسكري الإيراني، وهو تصنيع الصواريخ الباليستية الذي بدأ النظام يتباهى بها. وقرار النظام إطلاق صواريخ باليستية في يونيو (حزيران) الماضي على سوريا كان هدفه إظهار قدرة طهران على توجيه ضربات عسكرية موجعة… وما يثير القلق أن تلك الصواريخ يمكن أن تطور لتحمل رؤوساً نووية، وهو الخطر الأكبر في هذه المنطقة المشتعلة.
وبما أن الأمم المتحدة قد وضعت عقوبات ضد إيران بسبب تطويرها للصواريخ الباليستية، هناك سابقة يمكن البناء عليها، بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1929 الصادر عام 2010، حيث قرر مجلس الأمن بأنه «يجب على إيران عدم اتخاذ أي إجراءات متعلقة بتطوير قابلية الصواريخ الباليستية القادرة على إطلاق الأسلحة النووية، بما في ذلك إطلاق تقنيات الصواريخ الباليستية، وأن الدول ستتخذ كل الإجراءات الضرورية لمنع نقل التكنولوجيا أو منح أي مساعدات تقنية لإيران في هذا المجال». ولكن مع ذلك، تكرر إيران اختبارات الصواريخ الباليستية وتعلن عنها بكل عنجهية، كما تبث وكالات الأنباء الإيرانية الرسمية أنباء عن التعاون الوثيق بين إيران وكوريا الشمالية. فبعد إقرار الاتفاق النووي، تشجعت طهران على التمادي العلني.
ولكن مع اقتراب القرار الأميركي للتخلي عن الاتفاق، بدأت طهران تعيد النظر في حساباتها. وعلى الرغم من التصريحات الرنانة الصادرة من نظام المرشد الأعلى للنظام علي خامنئي برفضه مراجعة الاتفاق، إلا أن الضغط بدأ يخرج ببعض النتائج. وبحسب دبلوماسيين إيرانيين تحدثوا لوكالة «رويترز» هذا الأسبوع فإن طهران قد «نوهت للدول الست بأنها قد تكون منفتحة على محادثات حول ترسانة الصواريخ الباليستية». وهذه خطوة على الدول العربية أن تصر عليها، فهي في مرمى تلك الصواريخ، كما أن تقارير استخباراتية عدة تشير إلى توجه إيران لبناء مصانع لمثل هذه الصواريخ في سوريا واليمن.
خلال فترة المفاوضات السابقة للملف النووي الإيراني، كان الموقف العربي مهمشاً، ولكن على الدول العربية اليوم أن تكون لاعباً مهماً في التعاون مع واشنطن والعواصم الخمس الأخرى لإظهار المخاطر على المنطقة والخروج بصيغ بناءة بدلاً من الاكتفاء بالتنديد بالاتفاق. وربما الأهم من ذلك، على الدول العربية وكل طرف يجد نفسه متضرراً من التصرفات الإيرانية أن يقدم رؤيا واضحة وأدلة على كيفية إخفاق الاتفاق النووي في كبح طموحات طهران العسكرية. ففي الوقت الراهن، إيران تكسب معركة التعاطف الشعبي الأوروبي والسياسي في العديد من عواصم العالم، وتراوغ على أنها ملتزمة بالاتفاق، رغم خرقها لقرارات منع تطوير الأسلحة الباليستية وتسليح وتجنيد قوى خارجة عن القانون. والفرصة اليوم للدفع باتجاه محاسبة طهران، ولكن بموجب القانون الدولي، وبناء على المصالح المشتركة بين الدول العربية والقوى الكبرى.