قلَّة من المُحللين خلصوا من تحليلاتهم منذ طوفان الأقصى لغاية اليوم إلى أن الحرب الإسرائيليَّة – الإيرانيَّة واقِعة لا مَحالَة، وإن الغالبيَّة كانت مُقتنعة أو يُقنعون أنفُسَهم بأن لا مَجال لمُواجَهَةٍ مباشرة بين الدَّولتين الإقليميتين المُتناقضتين من حيث الإيديلوجيا كما من حيث تضارب مساعي إحكام النُّفوذ على الشرق الأوسط، وقد بنوا مواقفَهم على مقولةِ توازُنِ الرُّعبِ الذي سَوَّق له مِحور المُمانعَة، استِناداً لعدم قُدرَةِ أيَّةِ دولةٍ من الدَّولتين على هزيمَةِ الأخرى. أما وقد وقَعَت هذه الحرب خلافاً لتَوقُّعات الكثيرين، كما أنَّها توقَّفت أيضاً خِلافاً لما كان يَتصوَّرهُ الكثيرون. وثمَّة سؤال جوهري مُبرَّر يطرح ذاتَه، هل ستَتَجَّدَّدُ هذه الحَرب في ظِلِّ تنامي المَخاطِر؟ وإن كان احتِمالُ تَجدُّدِها كحربٍ شامِلَةٍ لم يزل مَحدوداً في المدى القريب؟ وهل سيبقى هذا الاحتمالُ قائماً على المَديين المُتوسِّط والبعيد؟ وفي حال تَجدُّدها هل ستنخرطُ الولاياتُ المُتَّحِدَةُ فيها أم ستَقتصِرُ أوجهها على ضَرباتٍ موضِعِيَّةٍ قاسِمةٍ وموجِعَة؟
الإجابةُ على هذا السُّؤال ليس بالأمر السَّهل، وتتوقَّفُ على دراسةِ وتحليل عوامل مُختلفَةٍ ولكنَّها مُتشابكة، تحت وطأةِ ارتِفاعِ مُستوى المَخاطِرِ والتَّهديدات، وإصرار كلِّ طرفٍ على إعلانِ انتصاره في الجولة السَّابقَةِ على عَدوِّه، رغمَ تَكتُّمُه على طبيعةِ ومِقدارِ الخسائرِ التي لَحقَت به، وحِرصه على التَّستُّر على مواضِعِ ضَعفه، وتعظيم عناصر قوَّتِه الحاليَّة والمُستقبليَّة.
مما لا شكَّ فيه أن إسرائيل قد نجحت في جرِّ إيران إلى مواجَهَةٍ مُباشِرَة بعد أن كانت الأخيرة تواجهها بواسطة وكلائها في دولٍ أخرى، لتردّ عليها إسرائيل باستهدافاتٍ منفرِدَةٍ كاستِهدافِ قادَةٍ من كِبارِ المَسؤولين في الحرس الثَّوري وفيلقِ القُدس؛ وبعد جهد جهيد واستِفزازاتٍ مُتكرِّرة نجَحَت إسرائيل في نقلِ المَعركَةِ إلى عُمقِ الأراضي الإيرانيَّة، ولم تَكتفِ بتنفيذِ ضَرباتٍ مُتفرِّقة، إنما كانت عبر مُواجهًةٍ شبه مَفتوحَةٍ ومُتواصِلَةٍ لدزينة من الأيام، تركَّزت الاستِهدافاتُ على الدِّفاعات الجويَّة، والمُنشآتِ العَسكريَّةِ الخاصَّةِ بالصِّناعاتِ العَسكريَّة، بحيث طالت المُنشآت المُخصَّصة لصِناعةِ الصَّواريخ المُتوسِّطةِ والبعيدَةِ المَدى بما في ذلك الصَّواريخ البالستيَّةٍ والفَرط صَوتيَّة، سواء كانت تَقليديَّةً أم ذَّكيَّة، وبالتَّأكيد كان الغرضُ الأهمُّ يتمثَّلُ في القضاء على المَشروع النَّووي الإيراني، وإن لم تتحَقق الغاية المنشودة بكلِّيَّتِها، لخصرِ الأهدافِ بتَقويضِ القُدُراتِ العَسكريَّةِ لإيران بما في ذلك قُدُراتها النَّوويَّة، واغتيال عدد كبير من كبارِ قادتِها العسكريين، وعُلماء الذَّرَّة.
ومما لا شك فيه أن جوهرَ الصِّراعِ ما بين إسرائيل وإيران ذو طابع وجودي بالنِّسبةِ للطَّرفين على الرَّغمِ من الإختِلافِ في الغايَةِ التي يتوخَّاها كل منهما منه؛ ويردُّ ذلك لكونِ الثَّورَةِ الإسلامِيَّةِ في إيران ترى في إسرائيل كياناً مُصطنعاً أُقيمَ على أرض فلسطين رَغماً عن إرادَةِ أهلها ومعظمِ شعوبِ الأرض، ولا بدَّ من إزالتِهِ وتقويض حلمه في إقامة إسرائيل الكبرى، أما قادة الكيان الصَّهيوني يرون في إيران دولةً مارقةً تَضعُ نَصبَ أعيُنها السَّيطرةَ على منطقة الشَّرق الأوسَطِ، مُتَّخذةً من القَضيَّةِ الفلسطينيَّة ستاراً لإقامَةِ مَنظومَةٍ عَسكريَّةٍ واسِعَةِ الانتِشار جُغرافيًّا، تُحيطُ بإسرائيل من جَهاتٍ مُختلِفَة، بدءاً بغزَّة (حماس والجهاد الإسلامي) مروراً بلبنان (حزب الله) وسوريا (نظام آل الأسد والعديد من المُنظَّمات الشيعيَّة) والعراق (الحشد الشعبي ومنظمات شيعية أخرى) واليمن (الحوثيين) وانتهاءً بإيران نفسها التي تفوقُ من حيثُ مساحتِها عن الـ 60 ضُعفاً من مساحَةِ فلسطين المُحتلَّة. وفي الوقت الذي تُعتبرُ فيه إسرائيل شبه مُحاصرةٍ جغرافيًّا وإيديولوجيًّا لكونها مرفوضةً من الشُّعوب العربيَّة المُحيطة بها، وإيران بدورِها شبه مُحاصَرة اقتِصادِيًّا ومالِيًّا وتِقنيًّا.
لم يكن الإستِهداف الإسرائيلي للعمق الإيراني مفاجئاً وإن شكَّل مباغتةً للقيادة الإيرانيَّة، إذ جاء بعد تحرُّشات عسكريَّةٍ ميدانيَّةِ مُتصاعِدَة الوتيرَة على أكثر من جبهَة وإن بأنماط مُختلِفة، بحيث بدأت برفع مُستوى حِدَّة التَّهديدات اللَّفظيَّة، ومن ثم تصعيدٌ على المُستوى الميداني باغتيالِ عددٍ من قِياديي الحرس الثوري الإيراني خارجَ الأراضي الإيرانيَّة، ومن بعدها كانت عمليَّةُ طوفانِ الأقصى التي نفَّذتها مُنظمَةُ حَماس بدعم ومُباركَةٍ إيرانيَّة، ومن ثم حرب على قطاع غزَّة، وفتحِ جبهاتِ مُساندةٍ انطلاقاً من لبنان والعِراق واليمن التي وحدها أوجَعت إسرائيل إن كان بتوجيه مُسيَّراتٍ وصواريخ طاولت العُمق الإسرائيلي أم بشلِّ حركةِ السُّفن المُتوجِّهةِ عبر البَحر الأحمرِ من وإلى مرفأ إيلات، ما دَفع بإسرائيل وأميركا، كل على حدة، إلى استِهدافِ عددٍ من القياديين التَّابعين للحَرس الثوري وفيلقِ القُدس، وقَصفِ عددٍ من المرافِقِ الحَيويَّةِ في اليمن بالإضافةِ إلى منصات إطلاق صواريخ ومراكز لتخزينِها، إلَّا أن أخطرُها تمثَّل في استهداف إسرائيل لعددٍ من القادةِ العَسكريين الإيرانيين داخِلَ مَقرِّ القُنصُلِيَّةِ الإيرانيَّةِ في دِمشق، واكتَفت إيران بإطلاقِ رُزمَةٍ من المسيَّرات والصَّواريخ البَعيدَةِ المَدى ليلاً وجهتها إلى إحدى القواعد الأميركيَّةِ في العراق، وأخرى وجِّهت لداخل الكيان الإسرائيلي، ومن ثمَّ شنَّت إسرائيل حرباً شعواء على حزب الله مُستهدفةً آلاف من مُقاتليه بعَمليَّةٍ استخباراتيَّةٍ نوعيَّةٍ عبر تفجيرِ أجهزةِ البيجر وأجهزة اتِّصال لاسلكية التي زُوِّدَ بها مُعظمُ عناصِرِ الحِزب، ما أدّى إلى تحييد مُعظَمَهم بمن فيهم قادة ميدانيين، وبعدها قامت باغتيال معظم قياداته العليا والوسطى، كما استهدفت ما يزيد عن 1600 موقع ما بين مخزن أسلحة ومِنصات لإطلاق الصَّواريخ، وانتهت المواجهة بإبرام اتفاق اذعان لصالِح العَدو الإسرائيلي، ورغم ذلك لم تتقيَّد إسرائيل ببنوده وحافظت على احتلالها لبعض المواقع الهامَّة على امتداد الشريط الحدودي، كما استمرَّت باستِهدافاتِها لعناصر الحزب وبقصفِها لمراكزه ومواقِعِه ومَخازِنِ أسلِحتِه وبخروقاتها الجويَّةِ اليوميَّة، فبدا الأمر وكأنه وقفٌ لإطلاقِ النَّار من الجانب اللبناني فقط.
شعرت إسرائيل بتفوُّقِها العَسكري والاستخباراتي على محور الممانعة ككل بعد ما بدا واضِحاً تجنُّب إيران الإنجرار إلى مواجَهَةٍ مُباشِرَة، ما مَكَّن إسرائيل من الإستِفراد بأعدائها واحِداً تلو الآخر، لتَتفرَّغ لِشنّ مَعركَتِها «الأم» مُباشِرَةٍ مع العدو الأصيل «إيران» وعلى الأراضي الإيرانيَّة هذه المرَّة، مُسقطَةً بذلك فرضيَّةَ الرَّدعِ المُتبادَل، وكان لها ما أرادت.
بادئ الأمر، ظنَّ كثرٌ من المُحللين، وأنا منهم، أن أمّ المَعارك ما بين إسرائيل وإيران قد فُتِحَت على مِصراعَيها وأن الولايات المُتَّحدة قد انخرَطت مُباشرةً في مواجَهَةٍ مَفتوحَةٍ وشاملة مع الحوثيين كما إيران بعد أن نجَحَت إسرائيل بإقناعِ الإدارَةِ الأميركيَّة بضربِ الحوثيين وأن تتولى مُباشَرةً القَضاءَ على المُنشآت النووية الإيرانيَّة المتينة التَّحصين لوجودها داخل أنفاق محفورةٍ في عمق الجبالِ بواسِِطةِ بعض ما لديها من طائراتٍ استراتيجِيَّةٍ وقَذائفَ نوعيَّةٍ مُخصَّصة لخرق أهم التَّحصيات الأرضِيَّة، وقد تبلور هذا الاعتقادُ رغم الشُّعورُ السَّابق بأن كلًّا من إيران وأميركا يتلافى الإنجرار إلى مواجَهَةٍ عَسكريَّةٍ مُباشِرَة.
المُفاجأةُ الصَّاعِقَةُ كانت بإعلان الرئيس الأميركي، بُعَيدَ تنفيذِ الضَّربَةِ الأميركيَّةِ على أهم ثلاث مواقع نوويَّة في إيران وهي منشأة فوردو ونطنز وثالثٌ في أصفهان، أن وقفاً تاماً وشاملاً للحرب بين إسرائيل وإيران وأنه سيُعلن في وخلال ساعات عن موعد وقفِ إطلاق النار، وكان قد سبقه توقيع اتفاق عدم اعتداء مع الحوثيين، فبدا الأمر وكأن مَسرحيَّةً هزليَّةً أُظهِرَت بإخراجٍ رديء، بدأ بإعلان إيران أنها ردَّت على القَصفِ الأميركي لمُفاعِلاتِها النَّوويَّةِ بقصفِ قاعدة العديد الأميركيَّةِ في قَطر برُزمَةٍ من الصَّواريخ، وتلا ذلك تَسريبِ صورةٍ لشاحِناتٍ كبيرَةٍ أمام مفاعلِ فوردو، وبعدَها صورةٍ أُخرى للقاعِدةِ الأميركيَّةٍ التي زَعم الإيرانيون استهدافها وبدت خاليَة، وكانت الطَّامَةُ الكُبرى بتوجيه ترامب رسالة شُكر لإيران لأنها أبلغتهم مسبقاً بموعِد إطلاقِ الصَّواريخ والمَكان المَنوي استِهدافُه.
هذه المَسرحيّة بإخراجِها الرَّديء، تُثير تساؤلاتٍ مَشروعة، أولها هل أن العلاقة الأميركيَّة – الإيرانيَّة محكومةٌ بتبادل المصالِحِ بين الطَّرفين بدءا بفضيحة «إيران غيت»، مروراً بالتَّسهيلات التي قدَّمتها إيران للأميركيين لإسقاط نظام صدَّام حسين ومن ثم القضاء على قيادات تنظيمِ القاعِدةِ، وهذا ما حَكَم طبيعةَ العلاقة ما بين الإدارات الأميركيَّة الديمقراطيَّة وإيران، وبالتَّحديد منذ عهد أوباما وانتهاءً بنهايةِ ولايَةِ بايدن؟ أم أن الدَّور الإيراني قد انتهى وأن المِحور الغربي، بما فيه دول حِلف شمال الأطلسي بغالبيَّة مُكوناته، وحَليفتِهم إسرائيل، قد ضاقوا ذرعاً بالتَّطلُّعاتِ الإيرانيَّةِ الإمبراطوريَّةِ، والفارِسيَّةِ التَّوجُّه، والتي أدَّت إلى تقويضِ مُرتَكزاتِ الاستِقرارِ في مِنطقَةِ الشَّرق الأوسط، وأزعجت معظم دولِ المِنطقة؟ كل تلك التَّساؤلات تطرحُ مُجتمعةً السؤال التالي: هل نحن أمام وقفٍ نهائي وشامِلٍ للحرب ما بين إيران من جهة وإسرائيل وراعيَتها أميركا وفق ما أعلن ترامب؟
يدعونا المنطق للقول بأن التَّعبير الذي استَعمله ترامب عندما أعلن وقفَ العمليَّاتِ العسكريَّةِ «وقف نهائي وشامل للحرب» لم يكن موفَّقاً، كون ما حصل أقرب إلى هدنة مؤقَّتة، ربما أملاها النَّقص في الترسانة الخاصَّة بصواريخ الدِّفاعات الجويَّةِ الإسرائيليَّةِ والأميركيَّة، وقُصورُها مُجتمعةً عن التَّصدي الفاعِلِ للصَّواريخِ الإيرانيَّة، وبخاصَّةٍ البالِستِيَّةِ والفَرط صَوتيَّة، والتي استُهدِفَت بها مُنشآتٍ عَسكريَّةٍ استراتيجيَّةٍ إسرائيليَّة ومَرافِقَ حَيويَّةٍ أخرى، وبعد أن نجحَت تلك الصَّواريخُ في إلحاقِ خَسائرَ جَسيمَةٍ بإسرائيل كُشِفَ عن بعضِها عَرضاً إلَّا أن ما خُفِيَ أعظَم نتيجَةَ التَّكتُّمِ الشَّديدِ وحَظرِ نَشرِ المَعلوماتِ عن الأماكِنِ الحَسَّاسَةِ التي تمَّ استِهدافُها، وإن كانت تلك الأضرارُ لا تُوازي شَيئاً مقابلَ ما لَحِقَ بإيران من خَسائرَ في بُنيتِها ومُنشآتِها العَسكرِيَّة.
نقول ذلك لأن الحرب التي شُنّت لم تحقق غاياتها الأساسيَّة بعد، والمُتمثلةِ في تقويض القُدرات الإيرانيَّة العسكريَّة الإستراتيجيَّة (وليس فقط النووية)، بالحدِّ الأدنى، وإسقاطِ النِّظامِ القائم وتفتيت إيران بالحد الأعلى، وذلك بتشجيع الشعب الإيراني على الإنتفاض بوجه الثورَة المُتحكِّمةِ بمَصيره، ولكون الأهداف الإستراتيجيَّة المتوخاة إسرائيليًّا وغربياً من هذ الصراع لا يمكِنُ تحَّقُقًها في ظِلِّ وجودِ النظام الثَّوري الحالِي، ذلك لأنه قائمٌ على مفهومي تَصديرِ الثَّورة ومَرجَعِيَّةِ الولي الفقيه، الذي يختصرُ في شَخصِهِ السُّلطتين الدينيَّة والوَضعِيَّة، ويتطلَّعُ دائماً لاستعادةِ أمجاد امبراطوريَّته الفارسيَّة. ومِمَّا لا ريب فيه أن طبول الحرب ستُقرع مُجدَّداً عاجلاً أم آجلاً لأن الصِّراعَ إيديولوجي ولم تنتِه فُصولَه بعد.