IMLebanon

بؤس الأنتلجنسيا العربية من الانقماع إلى الانتفاخ الذاتي

يتحول الانقماع إلى انتفاخ ذاتي في شخصية الأنتلجنسيا العربية، وكلاهما يعبّر عن عجز فردي واجتماعي وسياسي عند الجميع. ينتج الانقماع الذاتي عن السلطة المطلقة للاستبداد السياسي المتحالف مع الاستبداد الديني (الأول يستخدم الثاني)، واضطراداً الأنتلجنسيا إلى الانكفاء داخلياً، انسحاب كل واحد من المجال العام وإضمار ما يفكر فيه من دون الإعلان عنه. يفقد الواحد رجولته بل إنسانيته، ويحاول التعويض بالانتفاخ الذاتي، انتفاخ الذات أمام الموضوع، أوهام الذات العاجزة التي لا تقر بعجزها، بل ترفع عجزها إلى مستوى النصر بالسيطرة على ما تيسر من حي أو زاروب.. وعندما تحرم من ذلك أيضاً ـ يكون اللجوء إلى نظرية المؤامرة: نحن لم ننهزم بل الغريب المتآمر الامبريالي هو الذي تآمر مع العدو على إجبارنا على الهزيمة. وإذا صدف ان حققنا انتصاراً جزئياً ضد عدو محلي أو إقليمي، في زاروب أو منطقة، نرفع أيدينا بشارة النصر مبشرين ان ذلك إيذاناً بالنصر الكبير. لا ننتصر في المواجهة الكبرى، لكننا لا نستطيع الإقرار بالهزيمة. بالتالي فإن تخلفنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي ليس موضع نقاش. لا أبرع منا في مناقشة السياسة الدولية عندما يكون الموضوع حرباً أهلية في بلدٍ من المشرق أو المغرب العربيين.

الانتفاخ الذاتي، هو تضخم الذات حيال العالم الخارجي، عدم تواضع الذات أمام الموضوع، هو ضمور المعرفة، بالأحرى استخدام المعرفة التي تعلمناها في غير مجالها.

بذلك يتحول المثقف من عارف مفكر إلى جاهل يفكر تفكيراً خاطئاً. ليس صحيحاً أن المثقف لا يفكر، وأن هناك قلة موهوبة محظوظة من المفكرين الذين لا يدخلون في عداد المثقفين. وأنهم نسيج وحدهم وأنه لم يُخلق ولا يمكن أن يخلق مثلهم. يفتش العازف عن السياسة المتمسك بالأخلاق، فاصلاً إياها عن كل ما عداها، عن مطهر يبات فيه. هو ليس من هذا العالم. هذا العالم ليس له. ينعزل ضمن ذاته، يلتحق بالطغاة. تصير الأخلاق إحدى وسائل الاستبداد. ينسى انه من دون السياسة تختفي الأخلاق أو تغور وتتوقف عن الفعل. من دون السياسة يطغى الاستبداد الذي يقرر المعرفة، معرفة الباحث والمثقف، يموت الفكر ويتبخر المفكر.

هو مفكر، يعرف ما لا يعرفه غيره. أليس المثقف كذلك؟ لكن المفكر يفوق المثقف بالأخلاق. يحارب الفساد. دون كيشوت يخوض معاركه داخل ذاته. تلك هي مشكلة الانتلجنسيا العربية. تتذرع بالتفكير في مواجهة الواقع. تحتقر الواقع، وهي على حق. لا ينكر أحد ذلك. لكنها لا تعترف بما هو موضوعي. الذات أقوى من الموضوع. لا تستطيع إلا الانسراح وراء أوهامها. لا تعترف بالسياسة، ولا بتراكم التسويات في سبيل الإنجاز. كل الإنجازات عندها إنتاج، حتى الإنتاج والإعمار والتعليم هي في الأساس من صنع ناس فاسدين. لذلك لا تستحق الاعتراف بها ولا بأصحابها. تتلبس الانتلجنسيا، من جميع الأنواع، فسحة رسولية، أخلاقية تضعها فوق الناس، فوق الآخرين، فوق المجتمع. عزوفها عن السياسة هو في الوقت نفسه عزوف أخلاقي. هي تعزف عن السياسة وتحتمي بالأخلاق نتيجة عجزها. تذهب إلى ملجأ آمن هو الأخلاق التي تحميها من الفساد. تصبح الحرب على الفساد محور النضال، بل النضال الوحيد.

حقيقة الأمر هي أن هذا العزوف ذاته هو ما يترك الساحة للفساد الذي يتوسع ويستشري ويأكل الأخضر واليابس.

الذات المقموعة، الذات التي تمارس الانقماع الذاتي خوفاً من الاستبداد، تنفجر أحياناً. يظهر الانفجار في الساحات والميادين. يأخذ أشكالاً غير متوقعة وربما غير مقبولة. لكنهم، المثقفون المفكرون، العازفون عن السياسة، اللاجئون إلى جنة الأخلاق، لم يفكروا بها مسبقاً، ولم يساهموا في صنعها. إذن الميادين في نظرهم غير موجودة. لم توجد. ليس لديها بلاتفورم أو برنامج. لغتهم ولغة الطغاة واحدة. الناس ليسوا على حق. وجودهم ليس له معنى، مطالبهم غير مهمة، الشعوب غير مثقفة، غير قابلة للوعي، غير قابلة للثورة، غير قابلة للتقدم. نموذج الحداثة بعيد المنال عنها. هي الواقع المحتقر.

انتفاخ الذات هو عجز عن الفعل. الموضوع المحتقر لا ينفع الفعل فيه. شعوب تراثها الخضوع والخنوع والاستسلام للسلطان والركوع أمام الطاغوت، لا تستحق العمل والفعل والإنجاز. ما ضرورة السياسة إذا كانت الخيارات مغلقة؟ يريدون مجتمعاً على قياسهم كي «ينزل عنتر عالسنتر».

هو ادعاء المعرفة وممارسة الجهل. بالتعريف تبرر الانتلجنسيا وجودها بالمعرفة (والتفكير). لكنها إذا كانت تعاني انتفاخاً ذاتياً مَرَضياً يحتقر الموضوع، لا يولي الناس والمجتمع أية أهمية، كيف يمكن أن يعرفوا المجتمع الذي هم منه وفيه لكنهم ليسوا له. لكن المعرفة تفقد مهمتها إذا كان لدى صاحبها انتفاخ ذاتي. وتصير وسيلة لتحقيق غروره لاكتناه الواقع الخارجي، المادي والمعنوي، والبناء عليه. معرفة تقوى فيها الرغبات على الوقائع، تبعد الأهداف عن إمكانية التحقيق: تصير مجرد شعارات في المناسبات. تتخلى الانتلجنسيا وأحزابها عن الصلة بالواقع، عن كل علاقة أخلاقية وسياسية بالناس. لا يقرأون من أجل ان يعرفوا بل من أجل وجهة نظر يعرفون سلفاً أو لا يعرفون انها خاطئة. وجه آخر لممارسة يخضعون فيها للطاغية. يهتفون له كلما أقام مهرجاناً، لا نقاش مع الطاغية، فقط مهرجانات لتبليغ إرادته وإعلان الولاء من قبل القطيع. انتفاخ ذاتي جوهره الانقماع الذاتي، متحول إلى استسلام. من يستسلم في الداخل، يستسلم في الخارج. رؤية انقماعية انتفاخية جوهرها الهزيمة، تصنع الهزيمة.

لا يحترمون المناقشة، ما دام كل شيء سوف يسجل في تقارير المخابرات فالقول لا يعبر من الضمير. ما تجمع من معرفة يكتنز كما تكتنز العملة الصعبة خارج البنوك خوفاً من القوانين والإجراءات. حتى الندوات، لا نقاش حقيقياً، لأنك إن قلت ما يجب أن يقال فإنك سوف تنتهي حتماً إلى الحوار في اتجاه واحد مع مسؤول المراقبة.

الساحة العامة مقفلة، لا مجتمع مفتوح، الميدان ممنوع. إذا كنت جدياً في ان يكون لك رأي وأن تعبّر عن رأيك، فالساحة الوحيدة المسموح بها هي الحرب الأهلية، العنف ضد النظام المتحول إلى حرب أهلية. يرغب الاستبداد بذلك كبديل عن الحوار وعن السياسة. الاستبداد نقيض السياسة، لا يحب السياسة، يمكنه تبرير كل تمرد ضده بأنه مؤامرة خارجية، أما الحوار فهو يضعه أمام الأمر الواقع، أمام الواقع. الذات المنتفخة للمستبد وأتباعه فيها كلها احتقار للواقع. ليس لأن الحقيقة أليمة، بل لأن هذا الواقع معشوقهم.

هم يقاتلون من أجل الحقيقة والحق. ينضم إليهم أهل الحقيقة والحق الدينيون. يختلط الاستبداد الديني بالاستبداد السياسي. عبد الرحمن الكواكبي أشار إلى ذلك. يبتعد الجميع عن الحق والحقيقة. يبتعدون عن الناس. يصير الناس هم الضحية. الجميع يقاتل من وراء متراس. الناس في الشوارع الخلفية والبيوت. هم إصابات غير مقصودة. لكنهم هم الأكثر عدداً بكثير في كل معركة. بدأ الأمر بالناس الذين لم يعودوا يطيقون الأوضاع التي يعيشونها. إذن، فليموتوا كي لا يعيدوا الكرة، في زمن قريب أو بعيد.

يشترك الطاغية وأتباعه مع معارضيهم في انتفاخ الذات واحتقار الناس والتمسك بمقولة الشعب. المقولة الميتافيزيقية هي الأساس، حياة الناس لا تعني شيئاً، مصيرهم مقرر سلفاً. الرؤية التي لدى الذات المنتفخة، لدى الطاغوت ومعارضيه، هي التي تقرر المصير، حتى ولو كان الموت.

ليس أخطر من نظرية المؤامرة في تغذية الانتفاخ الذاتي. تصير أخطاء الطاغية حسنات. ملامة الحرب الأهلية تقع على الخارج. يصير الناس من دون مطالب. هم فقط أدوات في الصراع بين الطاغية والخارج. الخارج امبريالية أو ما يشبه ذلك من أهل الشر. إذن الداخل، أي النظام، هم أهل الحق. يشطب جمهور الناس من معادلة الصراع. أهل النظام لا يعتبرون الجمهور ذا مطالب. خلق الشعب فقط ليخضع. الذات المنتفخة لا تريد له أكثر من ذلك. أعطيناكم الاستقرار فأعطيتمونا رسنكم. وأنتم أي الشعب، أخللتم بهذه المقايضة. تستحقون العقاب.

غريب كيف يتحول الانقماع إلى انتفاخ لدى الذات. كلام يبعث على الأسى. الدافع إليه هو تراجع الخطاب السياسي العربي خلال نصف القرن الماضي.