IMLebanon

مدارات التأليف.. والهوّة الفاصلة عن “السياسة”

تؤلَّف لا تؤلَّف، تتأخّر لا تتأخّر، الآن أو غداً، في يوم أو في شهر: الى هذا يكاد يكون قد انساقت المتابعة السياسية والاعلامية كلها في مرحلة ما بعد الانتخابات، ذلك الاستحقاق الذي، على سيئات قانونه، والانخفاض النسبي في مستوى تسييسه، حمل في نتائجه مؤشرات واتجاهات أعمق بكثير من اللوحة العجيبة الغريبة “للجميع منتصراً”، لكنها مؤشرات واتجاهات جرى طمس جزء أساسي منها بالتسابق الى اعلان النصر، كل بمنظاره، ويجري طمس جزئها الآخر باختزال اللحظة السياسية الحالية الى لعبة اقتناص لإرهاصات التشكيل الحكومي، هنا توزير يستعصي ثم تحل عقدته، وهناك حقيبة يتبارز اثنان بصدد “حقهما الطبيعي” في الحصول عليها.. لعب على الإنفعالات والأعصاب، في الأذهان أكثر منه في واقع الحال، لأن الناس عنه لاهية، الى حد بعيد لامبالية، تستطلع حال التشكيل من عدمه يومياً، وتفضل بشكل يكاد يكون تلقائياً التشكيل من عدمه، لكنها في نفس الوقت في مطرح آخر، حتى بات مغرياً السؤال اذا كان الاستقرار النسبي الهشّ الحاصل في لبنان نسبة الى بلدان الجوار، فيه نصيب بشكل أو بآخر لهذا العزوف، لهذا الابتعاد، لعموم الناس عن السياسة، ولتواري ما كان يعرف بتشكيل الرأي العام، من جهة، وما كان اصطفافاً جماهيرياً متشنجاً وحيوياً في خيارات شاملة متعارضة مع بعضها البعض، من جهة اخرى.

تؤلّف أو لا تؤلّف؟ نشرة اخبار تزكي الاسراع في التأليف، وأخرى تميل الى تظهير التباطؤ فيه، وفي اليوم الثاني يجري تناقل الادوار النفسية بين النشرتين. يلحق بهذا المناخ صخب وحدية في بعض الاحيان، عندما يرفع فريق سياسي السقف، مطالباً بحصّة له أو وزن في التشكيلة العتيدة، وحين يساجل فريق آخر ضده، إنما بالمحصلة، هناك ما هو راكد في كل هذا الصخب، وما “سبقت رؤيته” ما زال يُمسك باللحظة الحالية.

ما دام المتّبع لا يمتّ الى الديموقراطية البرلمانية بكثير صلة، ما دامت الاخيرة لا تحصر مقتضاها في نيل حكومة ثقة الأكثرية في البرلمان، بل ان تنبثق الحكومة من اكثرية برلمانية وأن تتأطّر الاقلّية في شكل معارضة، فمن “الطبيعي” من ثم ان تأخذ عتبة التأليف الحكومي هذا الشكل من التفاوض الصاخب والراكد في نفس الوقت بين القوى السياسية. “طبيعي” ان يطالب كل فريق بما يراه الافضل له كمّاً ونوعاً على طاولة المجلس الوزاري. “غير طبيعي” ان تكون الحكومة برلماناً مصغراً، يتشكّل ليس فقط من اكثرية حكومية ومعارضة حكومية، بل تقريباً، كل من زاويته، من مجموعة معارضات حكومية. كل هذا يُحدث صخباً، وتأزيماً ثم انفراجاً ثم تأزيماً، لكنه لا يُراكِم تفاوضاً سياسياً منهجياً في نفس الوقت. الأمر الذي يجعل من عنصر السأم من هذه المراوحة العنصر الايجابي الاول الذي يعود فيضغط للاسراع في التشكيل، وقس على هذا ان كان هو المعيار.

ثمة من يرى في هذا الضجر متعة، وهذا يُضاعف من أمر الضجر. هناك ميل، ليس فقط عند الناس لهجران المتابعة السياسية، بل عند الساسة أيضاً، للتمثّل بالناس، ليس فقط لأن الموسم للمونديال، وبعده للاصطياف، بل أيضاً لأن هذا النوع من التأزيم المفتعل ثم الانفراج الذي لا يقلّ افتعالاً، ثم معاودة التأزيم، هو نوع يصرفه المرء من رصيده في نهاية الأمر، بل يصرف منه الجميع، وان يكن بتفاوت، تفاوت في مدى اقتدارهم، وتفاوت في مدى إدراكهم لمدى العبث الذي أخذ “يستعمر” الحياة السياسية في البلد.

إحياء الحياة السياسية في لبنان: ليس هذا، نفترض، بشعار مجرّد. انه يمتّ بذي صلة، نفترض ايضاً، لتمكين الحياة اللبنانية نفسها من ان تعود فتقترب الى ما هو صحّي في انفعالاتها وتفاعلاتها وادارتها لاختلافاتها وغرفها من مواردها. هل يمكن الربط بين التأليف الحكومي وبين إحياء الحياة السياسية في البلد؟ التحدّي هنا لا يقلّ إلحاحاً عن الربط بين الاستمرارية المؤسسية وبين ضرورة الاسراع بمعالجة الطارىء والداهم على الصعيد الاقتصادي – المالي. هناك حياة سياسية واعلامية وثقافية تندثر، تندثر وسط الصخب السياسي والاعلامي والثقافي، والحلقة المفرغة لتأليف – تعطل التأليف – حلحلة، وتمارين “التبصير” الملازمة لكل هذا المشهد.

لا يعني هذا، ابداً، ان الحياة السياسية بحاجة الى منقذ يحييها. ما تعطّلت هذه الحياة إلّا من كثرة المنقذين. هي بحاجة الى دراما أقلّ، الى “تواضع” أصحاب المشاريع الإنقاذية من كل حدب. إذّاك فقط، يصير ممكناً السؤال بجدية أكبر، عمّا يمكن فعله، في كل لحظة، فيصير للسياسة بداية “عودة معنى”.