في ذاكرة الجنوب، العام 1969 لا يُنسى. ليس لأنه كان عام الحصاد الوافر، بل لأنه حمل اتفاقاً مكتوباً بحبر الآخرين ودم الجنوبيين: “اتفاق القاهرة”. فجأة، تحوّل الجنوب اللبناني إلى ساحة مفتوحة للكفاح الفلسطيني المسلّح، من دون استئذان أبنائه. أضحى الشيعة، وهم غالبية سكان الجنوب، رهائن بين احتلال إسرائيلي لا يرحم، ووجود فلسطيني مسلّح لا يعترف لا بسيادة دولة ولا بحرمة بيت. كان أول النزوح حينها، وأولى النكبات. خرجوا أفواجاً من بنت جبيل، صور، الخيام، وغيرها، إلى الضاحية الجنوبية لبيروت. خرجوا بقلوبهم المكسورة، وصور الإمام الصدر، وحكايات عن أرضٍ باتت مستباحة.
في الضاحية، بدأت المرحلة الثانية من النكبة: استغلال الفقر والبؤس على يد اليسار “الثوري”. صار الشيعي مادة للخطاب الثوري، وجندياً في حرب لا يعرف لماذا يخوضها. ثم أتت حركة “أمل”، المولودة من رحم الحرمان، فتأرجحت بين دعم الكفاح الفلسطيني تارة، وبين صراع مخيمات دامٍ في الثمانينات بإيعاز سوري، لتقول لاحقاً إن “أمن المخيمات من أمن لبنان”؛ شعارٌ شكليّ غازل فيه نبيه بري السياديين، فيما كان عملياً يستكمل إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من الجنوب بعد هزيمتها في بيروت عام 1982.
لكن النكبة الأكبر كانت في عام 1985، حين وُلد “حزب الله – الثورة الإسلامية في لبنان”. دخل الحرس الثوري الإيراني بيروت، وليس الجنوب، تحت غطاء “تحرير فلسطين”، وبدأ تأسيس ميليشيا مذهبية عقائدية، لا تشبه لبنان، بل تشبه “قمّ” وهدفها احتكار حمل السلاح باسم “المقاومة”، وتحوّل من خيار وطني إلى ذراع إقليمي. وهكذا، تحوّلت “الشيعية السياسية” الى امتلاك قرار الحرب والسلم، ولكن ليس خدمة للبنان بل للمشروع الإيراني الواضح المعالم. التقطت إيران هذا المجتمع الشيعي المهشّم، وقدّمت له المساعدة، لا بصفته مواطناً لبنانياً، بل كامتداد لولاية الفقيه. فتم تأسيس “حزب الله”، ليس فقط كقوة مقاومة، بل كذراع عسكرية وأمنية وإيديولوجية لإيران، تتجاوز حدود لبنان وحدود الإجماع الوطني.
تحوّل الحزب إلى دولة داخل الدولة، وأُقصيت كل الأصوات الشيعية التي طالبت بالاعتدال والانخراط في الدولة المدنية. وباسم “الممانعة”، أصبحت الطائفة مجرّدة من قرارها الحر، أسيرة مشروع إقليمي أكبر منها، لا يأبه بمآسيها ولا بخساراتها المتتالية.
ثم جاء “طوفان الأقصى” عام 2023. وإذا بالشيعة اللبنانيين يُدفعون مجدداً إلى واجهة الصراع، لا من باب التحرير، بل من باب المزايدة والمفاوضة. قُصف الجنوب، سقط الشهداء، دُمّرت البيوت، لكن طهران كانت تفاوض، لا تبكي. كان الجنوب مجرد “ورقة ضغط”، والشباب الشيعة مجرّد “رسائل نارية” في بريد “النووي الإيراني”.
النكبة تتكرّر لا لأن الوطن تخلّى عنهم في لحظة مفصلية، بل لأن البدائل خذلتهم باسم قدسٍ إيرانية اختطفتهم. لم تكن القدس يوماً في صلب عقيدة الشيعة وفقاً لفكرهم التاريخي، بل صارت كذلك فقط بعد أن قرّر الخميني إعلان “يوم القدس”. حتى اليوم، ما زالت غزّة تحترق، والجنوب محتل والضاحية تقصف، وإيران “تتضامن” بدم الآخرين.
الحل لا يأتي لا من غزّة، ولا من طهران. الحلّ في العودة إلى الإجماع اللبناني، إلى مشروع الدولة الوطنية، إلى تحييد لبنان، وإلى تفكيك ميليشيا السلاح واستعادة القرار. آن للشيعة أن يكونوا كما أراد الإمام الصدر: أبناء الدولة، لا جنود المحاور.