IMLebanon

الوطن السابق

كان الاحتفاء بالذكرى الأولى لغياب أنسي الحاج نوعاً من ذريعة لاستذكار المتمرّد المنكسر في حياتنا. تجمّع الناس في اليسوعية كأنما الحداثة لا تزال تموت من بعده، هو وأحلام الإنصاف وتمرّد الضعفاء وصائغو البيانات المطالبة بمطر سماوي حقاً، مطر يُغافل أحقاد البشر، ويطرّي قلوبهم، ويرشُّ في أحداقهم دمعاً بلسماً، يضحكُ في مرآته الأطفال ويرتاح المستسلمون.

أصغى كل منّا ألى أصواته الكثيرة من خلف الخشبة، إلى أناشيده الجاثية في حُرمة الولَه، الراكعة لصورة المرأة، أو سيَّافاً ضد الظلم، مترهِّباً لفكرة الكلمة كطريق أبدي نحو الجمال والحق والخلاص، من أشكال الغطرسة والطغيان والإهانة.

خارج مدرَّج قاعة المحاضرات لم يكن قد بقي شيء من لبنان أنسي الحاج. لا شيء. وعندما عُزف النشيد الوطني تذكّرنا ما كتبه المتمرّد الناحل قبل نصف قرن: “غداً يُعزف النشيد الوطني ونحن جالسون”. وقَف الناس تكلّفاً، وجميعهم يشعرون أن الوطن قد زال والنشيد يتيم وهائم في قبض الآخرين.

لم يعد الرجال يغيبون منفردين بل يأخذون معهم حقَبهم الجميلة. أنسي كان حقبة الحرية والشدو. الفرد الثائر بالأنين، من دون زمرة حوله ومن دون تحطيم ومن دون إلغاء. ثورة لا أثر فيها للدم والعنصريات. عندما كنا في “النهار” كان يدخل علينا في الليل لنبحث في “المانشيت”، ويقول بكل جدّية ويأس: لماذا لا تكون الصفحة الأولى غداً عن الحب؟ وإذ يرى في عيوننا استهوالاً للفكرة، يعود إلى مكتبه خائباً. المحبة كانت تصلُح خطبة على الجبل والغفران لزمن ابنة قرية مجدل، المعروفة بالمجدلية صاحبة جرّة الطيب.

كان هناك لبنانان: لبنان الأحزاب والكُتل، ولبنان الشِّلل المُبدعة التي لا التزام لها سوى دروب الحياة وفيء الجَمال، “جمعية أهل القلم” و”الندوة اللبنانية” و”العروة الوثقى” و”الآداب” و”الأديب” و”شعر” وخميسها في منزل يوسف الخال. مغرّدون بأصوات جميلة. مختلفون بأفكار بلا عنف، لا مرتزقة ولا قنّاصة. وأما “الغرباء” فكانوا يمَام لبنان ونشيد بيروت، نزار قباني وأدونيس ومحمود درويش وبدر شاكر السيّاب.

أسماء وحِقب من الماضي ووطن سابق. فرحنا بإبقاء بيت فيروز في زقاق البلاط، الحيّ الذي سكنه أوائل النازلين إلى المدينة من الشيعة والمسيحيين. وهو لم يكن بيتها. كانت لها ولأمها ووالدها وأخوتها غرفة واحدة ومطبخ صغير. وفي هذا المطبخ كانت نهاد حداد تمضي يومها تستمع إلى الأغاني من عند الجيران. وعندما تمكّن الأب أخيراً من شراء راديو عتيق، صار الغناء في البيت. لكن الجار الفقير الذي كان يعمل في الليل وينام في النهار، كان يصرخ من غرفته: “شو فاتحين إذاعة، قوموا انقلعوا عَ الإذاعة”.

كان مبنى الإذاعة قريباً. قامت البنت الحيية أمّ الجدايل ونزلت إليه. وتغيّر صوت الموسيقى. ولم يعد لبنان معروفاً بالأرز والفصول الكاملة. تلك هي الحقبة التي خرَج فيها من الغرف الصغيرة والبيوت العتيقة وأحياء المهاجرين إلى المدينة، الخارقون الذين صنعوا في الديار الصغيرة، لبناناً لا يُهجر من أجل النجاح: جبران تويني (الجدّ) يؤسّس للصحافة الكبرى، وحسين العويني يعود إلى ساحة البرج من اثرياء العرب وكبارهم، وبطرس الخوري يُصبح في حجم الموازنة وإميل البستاني يعود مهندساً من MIT ليصبح أول معماري في الشرق. أسراب من العصاميين تنشأ مع لبنان الحديث الاستقلال، وتعمل وتُجاهد وتُغرّد فوق غصون النجاح والألَق.

حقبة كان كتَّاب الصحافة فيها فؤاد سليمان وسعيد تقي الدين ورشدي المعلوف وجورج نقاش وعبدالله المشنوق وسعيد فريحة واسكندر رياشي وكامل مروّة ومحيي الدين النصولي ومارون عبود وغسان تويني وجميع من نسينا، أو مَن يظلمه جهْلنا.

داخل قاعة اليسوعية كان الدكتور أسعد خير الله(1) يقول إن أنسي الحاج تجاوَز الحداثة إلى ما وراء الشعر. وخارجها كان لبنان يتراجع من حقبة ما بعد الحداثة إلى أزمان ما قبل التخلّف، إلى العصور القبَلية وألسنة بابل حيث الجميع يتفوّهون ولا أحد يُصغي. خارج القاعة كان يهبط على المدينة النسيان والخوف. وصارت الكلمة في الأزقّة ولم تعد على نضارة “كلمات كلمات كلمات”. وصارت سفاهة ودجلاً وخناجر. و”الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع” صارت “زيزي” صاحبة أغنية أقراط الموز الطويل. دعوني أستخدم للمرة الأولى كلمة “إفراز” التي درَجت في الخطاب السياسي العكِر والسقيم والمفرَّغ والقليل الأدب والذوق وعزّة النفس. أغنية الموز للسيدة “زيزي” هي إفراز طبيعي تلقائي لعناوين المرحلة.

في أولى روايات سارتر “الغثيان” يعجز المؤرّخ أنطوان اوكنتان عن وصف المرحلة التي تمرّ فيها مدينته “بويفيل” (مدينة الوحل) فيصاب بغثيان دائم. مَن لم تصِبه السياسة بذلك تصِبه “الكليبّات”. مرّت ذكرى أربعين عاماً على غياب مغنّية أحمد شوقي وأحمد رامي فيما كانت “زيزي” تتمطّى بين أقراط الموز. يصعب الأمر على مَن عاش وعشق في حقبة أم كلثوم. ويغشاهم الغثيان أولئك الذين هاموا في براري الحب وسيرة الحب وأهل الحب الذين ذابوا وما تابوا!

تصل بريد “النهار” أحياناً رسائل تقول، لماذا تشكو ولا تقترح؟ لأنني مواطن وكاتب ولست منظِّراً. وماذا عندي أقترحه أفضل من الميثاق. وأي نداء يُجترح أفضل من أن لا يكون لبنان ممراً أو مُستَقراً. وأي فكر تناسُقي أعمق من فكر ميشال شيحا وتقي الدين الصلح. وأي نموذج مدني آفاقي أرحب من نموذج فؤاد شهاب. نحن عُراة. لم يعد لنا سوى الماضي نحارب به هذا الحاضر الأرعن والعاقّ. لذلك نكتب عن الماضي، عن “السابق” كما سمّاه جبران خليل جبران. وإلا فإن في الحاضر الكثير من الحمَق والكثير من النِكران. بلد مرميّ على قارعة، وجمهورية مرتهنة عند بيّاعي العِتَقْ. وأضواء مدينة النور مسلّطة على أقراط الموز، وصاحبة اسم الدلع، “زيزي”، وترجمته ممنوعة في دفاتر الضابطة الأخلاقية، للفحش الأخلاقي أشكال كثيرة. مرة على شكل امرأة تُغنّي لأقراط الموز، مرة على شاكلة برنامج تتطاير فيه الشتائم السوقية والأكواب، ومرة على صورة رؤوس مثل بالونات غاز.

الدنيا لا تحتاج إلى تنظيرات بل إلى قدوات. والقدوات بسيطة مثل الزرع: ألفة ومحبة وإنصاف. تمرّد أنسي الحاج على إقطاع المال وإقطاع الجهل وإقطاع الفكر. تاهَ في السوريالية والرمز عندما تاهت منه الحقيقة. ذهب إلى الغموض وما “بعد الشعر” عندما وجد أنه يتحدّث لغة غير مفهومة، وأن الناس تفضّل الانسياق وزيْن الصمت وسلامته وذهَبه وفوائد أخرى وأغراضاً شتى.

لا يساومون. طلب الجنرال خوان بيرون من شاعر الأرجنتين خورخي لويس بورخيس الانضواء في الحزب الحاكم فأبى فأرسله عاملاً في إحدى مزارع النحل، وأرسل الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي ألكسندر دوبتشيك صاحب “ربيع براغ” مديراً لمعمل صابون. وبقيت الحرية حيّة في قصائد بورخيس وذكرى دوبتشيك. يروي نائب الرئيس السوري السابق فاروق الشرع في “الرواية المفقودة” لقاءات حضرها بين الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشيوف والرئيس الراحل حافظ الأسد. يشكو غورباتشيوف للضيف بكل صراحة من صدأ النظام. ويقول له إن الدولة كانت تطلب القمح من أميركا ليس لأنه لا ينبت في الاتحاد، بل لأنه لم يكن يصل من السهول إلى موسكو بسبب البيروقراطية الغبيّة وسوس الفساد ورخاوة العقول البليدة. وفي لقاء ثانٍ أخبر غورباتشيوف الأسد ان الاتحاد سوف يخسر دول البلطيق عما قريب بسبب العقول الجليدية وحضارات الجهل.

وفي النهاية فضّل غورباتشيوف أن يخسر بعض الاتحاد على أن يخسر كل روسيا. حدث ذلك في هدوء غريب. وحاول “الحرس القديم” إعادة رتْق الصدأ والصدْع، لكن الحتمية التاريخية التي تحدّث عنها الماركسيون كانت قد قطعت شوطاً بعيداً في الاتجاه المعاكس. وكان ضابط الكي. جي. بي. في برلين الشرقية شاب يُدعى فلاديمير بوتين فرأى الجدار الفاصل ينهار بين عالمين. لكن “العادات القديمة تموت ببطء” يقول المثل الإنكليزي. الرجل الربّاع، المَعْني بعضلاته مثل الأمبراطور هادريالك أحب مثله بناء الأسوار العازلة. لقد مضى زمنها جميعاً أيها القيصر الرفيق.

هامش:

(1) البروفسور أسعد خيرالله، أستاذ الأدب المقارن في الجامعة الأميركية.