IMLebanon

الصاروخ الذي أيقظ واشنطن

 

… وفي السنة الثامنة من الحرب في سورية وعليها تنبهت واشنطن إلى أن موسكو سرقت منها بلاد الشام بما فيها من دول وأنظمة ومناطق ومواقع، ومفارق إستراتيجية تتحكم بالشرق الأوسط وبثرواته وقراراته الإقليمية والدولية، وعلى الأخص ما يتعلق منها بالكيان الإسرائيلي. ولذلك بادرت واشنطن إلى رفع علامة (Stop) في وجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

لكن ما يدعو إلى الانتباه والتساؤل مع هذا التحوّل المفاجئ في الموقف الأميركي أنه جاء بعد يومين من إطلاق الصاروخ السوري الذي أسقط طائرة حربية إسرائيلية من فئة (F16)… ثم بعد ثلاثة أيام جاء مؤتمر السبعين دولة في الكويت بمشاركة دول الغرب الأميركي والأوروبي، فضلاً عن الدول العربية والآسيوية والأفريقية، وكانت نتيجته ثلاثين بليون دولار لحساب إعادة إعمار العراق، والعقبى لسورية التي أتيح لوفدها الذي يمثل المعارضة أن التقى وزير خارجية أميركا ريكس تيلرسون وأبلغه خلاصة مذكرة سياسية باسم الشعب السوري.

لكن، ماذا عن سورية؟

بعيداً من مدن «جنيف» السويسرية، و «سوتشي» الروسية، و «آستانة» الكازاخية، حيث دار في أروقتها «مؤتمر السلام» الخاص بسورية خلال سبع سنوات، ولا نتيجة منه سوى بيانات تتراكم على مواعيد جديدة لجولات أخرى، جاء الحدث الفاصل من الفضاء، ومعه التساؤلات:

هل هو صاروخ روسي أو إيراني، أو من صنع محلي سوري؟ لكن، أياً يكن المصنع فلن يغير في معنى الحدث والترددات التي تتوالى على الصعيدين الميداني والسياسي، وعلى الجبهتين السورية والإسرائيلية. ثم، وبكثير من الواقعية والتواضع، أعلنت دمشق بلسان معاون وزير الخارجية: على إسرائيل أن تتوقع مفاجآت أكثر.

ومع أن سورية، التي تكلمت في ذلك اليوم هي سورية النظام الذي كان السبب في المآسي والكوارث التي تتراكم على الشعب المندثر والموزع في أقطار الأرض، فلا بدّ أن هذا الشعب قد أصغى إلى ما سمع وقرأ بالقليل من الغبطة وبالكثير من الألم المتراكم عبر الترحال في التيه بعيداً من البيت والحي والأهل، والبلاد التي يملأ اسمها القلب والوجدان نعمة الصبر والأمل والرجاء: سورية…

وتتلاحق الأحداث والتطورات على الصعيد السوري في الداخل، وفي الإقليم، ومعظمها يوحي بالقلق على المصير. فوزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون أعلن في مؤتمر وزراء خارجية التحالف الدولي الذي عقد في الكويت في 13 شباط (فبراير) الجاري أن الولايات المتحدة الأميركية والدول الحليفة باتت تسيطر على مساحة 30 في المئة من الأراضي السورية، وضمنها حقول النفط، مع الإشارة إلى أن مساحة سورية تبلغ 185 ألف كيلومتر مربع، لكن خطر «داعش» لا يزال ماثلاً في الأراضي السورية، كما في الأراضي العراقية بعد استعادة أمنها بمعدل 98 في المئة.

منذ نحو ثماني سنوات، على الأقل، أي منذ بدايات الثورة السورية، تنازل النظام عن قراره للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل يمكن القول إن الرئيس بوتين، شخصياً، أمسك بالقرار السوري، تاركاً هوامش للنظام على سبيل استطلاع الرأي، وفي ظل ذلك الوضع استفحلت تنظيمات الإرهاب في بعض المناطق التي استطاعت الاستيلاء عليها والتحكم بإنتاجها من النفط والغاز.

وبالعودة إلى تلك المرحلة تبرز سلسلة مقابلات أجراها محققون صحافيون من مجلة «فايننشال تايمز» بين 12 و16 تشرين الأول (أكتوبر) 2015، وقد كشفت التقارير التي أعدها الصحافيون، ونشرت في المجلة، عن تعاون وتنسيق مباشر بين حكومة النظام السوري وتنظيم «داعش» في إدارة واستثمار إنتاج الغاز في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، وعلى قاعدة المناصفة، من دون أن يغيّر ذلك التعاون القواعد المتبعة في العمليات الحربية على الجبهتين. وتأكيداً على صحة المعلومات ذكر مندوبو «فايننشال تايمز» أن فريق النظام السوري كان يضم موظفين مسيحيين مع الموظفين المسلمين، وقد فُرضت على هؤلاء الجزية ذهباً مع «الجَلد»!. وهكذا كانت حكومة النظام تتقاسم مع «داعش» إنتاج معامل توليد الطاقة الحرارية بمعدل سبعين ميغاوات لــ «داعش» مقابل خمسين ميغاوات للنظام.

فهل كانت موسكو تجهل ذلك الاتفاق بين النظام وعدو الشعب السوري، بل هل كانت موسكو خارج الاتفاق؟!

ويعود السؤال: «داعش» مع سواه من التنظيمات الإرهابية التي اخترقت سورية وبعض مناطق العراق منذ ثمان سنوات، من أين أتى؟… والى أين يذهب عندما يغيب في مهمة أو إجازة؟ وهل من سؤال عن العلاقة، (وربما الشراكة)، غير المباشرة بين «داعش» وإسرائيل؟

روسيا دولة عظمى في العالم، وبوجود رئيس أميركي من طراز دونالد ترامب يحق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يقول إنه رئيس الدولة الأعظم!

وعلى هامش هذا الوضع الرديء جاء الصاروخ (المجهول الهوية المصنّعة) لينعش المزاج العربي بالضربة التي سدّدها إلى الطاووس الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، الذي قد يفيده أن يراجع الأسطر التالية من حروبه على لبنان:

في أعقاب معركة بين المقاومة الوطنية اللبنانية وجنود الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب أواخر صيف العام 1998 من القرن الماضي، كان بنيامين نتانياهو، رئيساً للحكومة، وكانت نتائج تلك المعركة باهرة بالنسبة إلى المقاومة والشعب اللبناني، فقد سقط من الجنود الإسرائيليين عدداً من القتلى والجرحى، وشهدت مناطق الاحتلال مناحات متفرقة كان نتانياهو خلالها يطوف معزياً عائلات الجنود القتلى، ويزور الجرحى الموزعين في المستشفيات حيث كان يواجه بصرخات غضب ودعوات إلى انسحاب كامل الجنود من جنوب لبنان. وفي ذلك الجو الأسود الذي خيّم على المناطق الفلسطينية المحتلة صدرت جريدة «هآرتس» الإسرائيلية بعنوان مقال لأحد كبار المعلقين في الصحيفة يتضمن جردة حساب مالية لـ «سعر» الجندي الإسرائيلي الذي يبقى حياً ويخدم في جنوب لبنان،» و «سعر» الجندي القتيل، وصولاً إلى «سعر» الجندي الجريح.

ولم تكن جردة الحساب «تقديرية»، بل أن الصحافي ناقشها مع أحد الجنرالات في الجيش الإسرائيلي الذي أجاب عن الأسئلة بالأرقام في النص التالي المترجم عن العبرية:

«إن سعر الجندي الإسرائيلي في الخدمة الإلزامية هو الأرخص لدينا، إذ أنه يكلف 16 ألف شيكل في العام. أما الجندي الذي يسقط جريحاً فإن تكلفته ترتفع بشكل حاد. وأما سعر الجندي القتيل فيعود تقديره إلى رئيس شعبة إعادة التأهيل في الجيش الإسرائيلي، وتبلغ الكلفة مليوني شيكل تُدفع لذوي القتيل عبر السنين. أما الجندي الذي يسقط جريحاً ويتحول مُقعداً فيمكن أنت ترتفع كلفته إلى ثلاثة ملايين شيكل؟؟!

وتبقى جولة وزير الخارجية الأميركي في المنطقة العربية بالغة الأهمية بالتصريحات التي أطلقها كأنه يبشر بـ «صحوة» أميركية بلغت حد كسر الجليد مع «حزب الله». لكن الصاروخ السوري الذي أسقط الـ «16F» يبقى الأهم، لأنه أيقظ واشنطن بإدارة دونالد ترامب، على تحوّلات في ما يُسمى اللعب على حافة الهاوية في الشرق الأوسط، وفي قلبه البلاد العربية التي تخوض مرحلة إعادة نظر في ركام أخطائها، على تعدد أنظمتها واختلافاتها.

كما يبقى الصاروخ السوري برمزيته هو الأهم، لأنه فتح باب الرجاء للجيل العربي الجديد، على الأقل، إذ أنه أتى بعد الصواريخ التي خطفت أرواح أولاد مدينة «درعا» وسائر أولاد المدن والأرياف في المحافظات والأقضية السورية الذين خربشوا أحلامهم بالحبر والطبشور على جدران مدارسهم، وما كانوا يدرون أنهم لامسوا عصب نظامهم، فكان جزاءهم القتل. لكن يكفي أهلهم ورفاقهم وشعبهم انهم أكدوا بقاء خميرة الحرية والعروبة والشهادة في عجين الشعب السوري.