IMLebanon

المقاومات الطائفية في لبنان… بين وهم التحرير وحقيقة تقويض الدولة

 

 

 

لا يمكن فصل دور الطوائف عن أي نقاش متعلق بلبنان ما بعد أو ما قبل الحرب الأهلية، ليس بوصفها كيانات دينية بل بوصفها أدوات سياسية مؤدلجة ومسلّحة. فمنذ الاستقلال حتى مرحلة ما بعد اتفاق الطائف، لعبت العصبيات الطائفية دوراً محورياً في تحديد مسار الدولة لا كمؤسسة ضامنة للمجتمع، بل كغنيمة تتنازع عليها الطوائف. المفارقة، أن كل طائفة أو على وجه أدق كل زعامة طائفية، صاغت لنفسها سردية مقاومة تُوظَّف لتبرير العنف، تكريس الزعامة وتأبيد الإمتيازات على حساب تآكل الدولة وتفككها.

لنبدأ بـحزب الكتائب اللبنانية الذي يُروّج اليوم لما يسمّيه «50 سنة مقاومة»، بدءاً من حادثة عين الرمانة في 13 نيسان 1975. لكن من وجهة نظر علم السياسة والتاريخ المقارن، لا يمكن اعتبار هذا الحدث مقاومة، بل شرارة حرب أهلية، بدأت باعتداء ميليشياوي على حافلة مدنيين فلسطينيين، لتُستكمل بمجزرة مرفأ بيروت المعروفة بـ«السبت الأسود» في 6 كانون الأول 1975 حيث قُتل مئات العمال اللبنانيين الأبرياء بناءً على هويتهم الطائفية ولتتحوّل الحرب بعدها واقعاً لا يمكن التراجع عنه. الحقيقة هي أن الكتائب يومها لم تقاتل دفاعاً عن فكرة لبنان، بل دفاعاً عن نظام الامتيازات الذي نشأ تحت سلطة الانتداب الفرنسي، حيث كانت المواقع السيادية والاقتصادية موزعة لمصلحة الموارنة، وفق منطق الحصرية الطائفية لا المواطنة.

مشروع الرئيس فؤاد شهاب الذي حاول إنهاء هذه الامتيازات، واستبدالها ببناء دولة حديثة تقوم على المؤسسات، أسقطه الحلف الثلاثي المسيحي، وليس أعداء الخارج، لأنّه شكّل خطراً على «التوازنات الطائفية» القائمة على احتكار الامتياز.

أما القوات اللبنانية، فهي اليوم تعيد تركيب الماضي بشعار «١٤٠٠ سنة مقاومة» ضمن سردية تقوم على تقديم الوجود الماروني في لبنان كمقاومة دائمة ضد المسلمين. لكن القراءة العلمية للتاريخ تثبت العكس. مار يوحنا مارون وأتباعه دخلوا لبنان عام 694م أي بعد الفتح الإسلامي بـ50 عاماً، هرباً من القمع البيزنطي الذي استهدفهم بسبب عقيدتهم اللاخلقيدونية وليس بسبب المسلمين. في الواقع، الحكم الإسلامي وفّر الحماية للموارنة الأوائل وساهم في صون وجودهم وحريتهم العقائديّة. ومن المفارقات أن أديره مثل دير الأحمر تحفظ ذاكرة المجازر البيزنطية ضد الرهبان الموارنة لا الإسلامية. الخلل المعرفي في هذه السردية يكمن في اختزال الوجود الماروني في «مقاومة ضد الإسلام» بدل قراءته كـتاريخ تفاعل وحماية متبادلة بين الموارنة والمسلمين في سياق متعدد ومعقّد لبناء حضارة مدنيّة الشرق المنيرة.

منتصف السبعينيات دخلت المقاومة الفلسطينية على خط الصراع، حاملة شعار «تحرير فلسطين» انطلاقاً من الجنوب اللبناني، لكن على الأرض تداخل المشروع التحريري مع مشاريع أنظمة عربية استخدمت الساحة اللبنانية كساحة تصفية حسابات. الفصائل الفلسطينية تحوّلت إلى قوة مسلحة تموَّل بمليارات الدولارات، وتحالفت مالياً مع بعض القوى المسيحية لتثبيت امتيازات على الأرض، كما في حالة «فتح لاند» في منطقة العرقوب. في هذا السياق أُحرق اللاجئون الفلسطينيون والمحرومون اللبنانيون في محرقة لا تخدم لا الدولة اللبنانية ولا القضية الفلسطينية، بل أعادت إنتاج «دول داخل الدولة» على حساب الشرعية.

تأسس حزب لله في الثمانينات بدعم إيراني مباشر، ضمن سياق ما بعد الثورة الإسلامية في إيران، ورغم ملاحظاتنا المتعلقة بسياق احتكاره العمل المقاوم، كان له دورٌ حاسم في تحرير الجنوب اللبناني عام 2000. لكن بعد التحرير كان من المفترض أن يُدمج سلاحه في مؤسسات الدولة، ويُحوّل من قوة عسكرية إلى قوة سياسية داعمة لدولة المؤسسات السياديّة الضامنة. إلّا أن ما حصل هو العكس، تحوّل الحزب إلى ذراع إقليمية لإيران، استندت الى قاعدة توظيف 70 ألفاً و100 ألف مقاتل ليشارك في معارك دمّرت العراق وسوريا وهجّرت شعوباً كاملة. الحزب الذي كان يُنظر إليه كمحرّر، بات اليوم مسؤولاً عن تقويض الاقتصاد اللبناني، والتسبب بالعقوبات، وانهيار القطاع المصرفي، وتهجير الطبقة الوسطى عبر تغليب مشروع «المقاومة الإقليمية» على بناء الدولة الوطنية وصولاً الى التسبب بمأزوميّة بيئته الحاضنة التي لا يحسد عليها.

إن أبرز ما تشترك فيه هذه «المقاومات» من الكتائب إلى حزب لله، هو أنها استخدمت شعار المقاومة لتحقيق مكاسب فئوية أو مذهبية أو خارجية، لا لبناء دولة مواطنة. والنتيجة؟ تهجير الموارنة من مناطقهم الأصلية، تدمير المجتمع الشيعي عبر الانخراط في معارك خارجية لا ناقة لهم فيها وارتدادات زرع الكره المقدس عليهم. سُحِقت الطبقة السنية ومفاهيم وسطيتها وكيانيتها الحضاريّة الجامعة عبر التهميش السياسي والاقتصادي والتشويه الإعلامي، أُضعف الدروز وفُتت حضورهم السياسي الفكري، حُوّل الفلسطينيون إلى أداة صراع ليس صراعهم…

من هنا نجد أن المقاومة الحقيقية اليوم ليست في رفع الشعارات بل في تفكيك منطق الميليشيا وتجاوز تقييداتها لبناء الدولة الدستورية الديمقراطية الراعية لكل مكونات المجتمع. وأن أوهام الماضي، سواء في شكل شعارات «الحقوق التاريخية»، أو «حماية الطائفة»، أو «مواجهة إسرائيل» أثبتت أنها أدوات لاغتيال الدولة ومؤسساتها.

فلبنان يحتاج إلى مشروع مأسسة الدولة الجامع، لا يقوم على تقاسم السلطة الطائفية بل على مواطنة العدالة الاجتماعية وسيادة القانون. وحده هذا المشروع يمكنه أن يُنهي قرناً من الحروب والمجازر ويعيد إلى اللبنانيين إيمانهم بوطن واحد يحافظ على وجودهم وكيانيتهم وتفاعلهم الحضاري، لا «مقاومات» متناحرة في وطن مدمّر ودولة فاشلة. واليوم المطلوب من كل المنتمين الى «قوقعة المقاومات» الخادعة، تجاوز كوارث مقاومات الماضي والعمل معاً في متابعة مصلحة الشعب في التخلص من نظام الإمتيازات ونظام محاصصة ميليشيات الإتفاق الثلاثي، والشروع فوراً بتطبيق الطائف والدستور وفق ميثاقيّة مقدمته دون أي اجتزاء، انطلاقاً من قانون استقلاليّة السلطة القضائيّة، استكمال السلطة التشريعيّة بمجلس شيوخ يضمن حقوق الطوائف، مجلس نيابي خارج القيد الطائفي، قانون متخصص وحديث للأحزاب السياسيّة، لامركزية إدارية تحقق الإنماء المتوازن بعد اعادة النظر بالتقسيمات الإداريّة للمحافظات والأقضيّة، وصولاً الى إعادة تنظيم وتحديث كل الإدارات العامة.