لم تقنعني سياسة ميشال عون تجاه “حزب اللّه” كتحالف أقلّيات بوجه الغالبيّة السنيّة مرّة. ولكنّ مقاربة منافسي ميشال عون المسيحيّين للمسألة الشيعيّة ليست مقنعة بدورها. صحيح أنّ المسألة الشيعيّة مركزيّة لفهم الاستعصاء اللبناني الحالي، وأن لا مفرّ من مقاربتها؛ ولكنّ استبدال الخرافة بالكليشيه ليس حلّا.
منذ سنوات، يناشد مسيحيّو ما سميّ يومًا بتحالف 14 آذار “حزب اللّه” كي”يعود إلى لبنانيّته”. بالحقيقة، لولا أنّ المرتبة الأولى بقائمة الشعارات اللبنانيّة السخيفة تعود لمقولة “لبنان الرسالة”، لكانت دعوة الأصوليّين الخمينيّين الذين صدف أنّهم ولدوا في لبنان للعودة إلى لبنانيّتهم احتلّتها. لقد جهر حسن نصراللّه مرارًا بتبعيّته الأيديولوجيّة والسياسيّة والماليّة لوليّ أمر المسلمين في العالم، الخامنئي. أن يطلب منه واحدنا “العودة للبنانيّته” هو الموازي لدعوة الشيوعيّين مثلًا للمصالحة مع الرأسماليّة. ماذا يبقى منهم لو فعلوا؟ بالمقياس ذاته، أن يطلب واحدنا من “حزب اللّه” التخلّي عن انتمائه للمحور الشيعي العابر للحدود يستبطن دعوته لنسف عقيدته الدينيّة والسياسيّة، وهزّ إيمان أعضائه به، والانقلاب على مسار أرسل خلاله آلاف الشباب لحتفهم طوال عقود، وصولًا طبعًا لقطع علاقته مع داعمه الأكبر عنيت نظام الملالي في طهران. ما هي الحظوظ الفعليّة أن يحدث هذا؟ وإن كان الجواب أنّ هذه الحظوظ معدومة، وهي فعلًا كذلك، عمّا يتكلّم الزعماء المسيحيّون المتلهّفون لـ “عودة حزب الله إلى لبنانيّته”؟
استطرادًا: ألم يكن كمال جنبلاط لبنانيًّا؟ هل عنى ذلك أنّ المسيحيّين عمومًا اتّفقوا معه على الموقف من الناصريّة في الخمسينات من القرن الماضي؟ أو من عرفات وانفلاش السلاح الفلسطيني لاحقًا؟ أو من العلاقات بين لبنان والغرب؟ أو مسألة النظام اللبناني؟ الجواب أن لا طبعًا. والجواب أيضًا أنّ حربا لبنان الأهليّتين، عام 1958، و1975، اندلعتا على خلفيّة الطلاق بالخيارات المتمحورة حول هذه المسائل. حتّى لو “عاد حزب الله إلى لبنانيّته”، فعن أيّ لبنانيّة نتحدّث؟ لبنانيّة الصراع الدائم مع إسرائيل، مثلًا، أم لبنانيّة السلام معها؟ يمكن لواحدنا أن يكون لبنانيًّا تمامًا ويقول بالموقف ونقيضه بهذه المسألة. دعاة “الحزب” لـ “العودة إلى لبنانيّته” يفترضون أن للانتماء للبنان معنى واحدًا متّفقًا عليه، خرج “الحزب” عنه، وهو مطالب اليوم بالرجوع إليه. هذا غير صحيح.
قبل أسبوع، عبّر زعيم مسيحي لبناني عن “شوقه لجبل عامل”. أفترض أنّه كان يحثّ شيعة لبنان على الانتصار للبنانيّة أصيلة متخيّلة فيهم، بمواجهة الخيار الإيراني. سألت نفسي، وأنا أقرأ تصريحه: ألم يخرج أدهم خنجر ورجاله من جبل عامل؟ ألم يخرّج جبل عامل آلاف المسلّحين اليسارويّين الذين قاتلوا إلى جانب الفلسطينيّين في الحرب؟ أليس مقاتلو حركة “أمل” بالحرب، وجمهورها بعد الحرب، من جبل عامل؟ ماذا يجمعني بكلّ هؤلاء، حتّى لو وضعنا “حزب اللّه” وملالي طهران جانبًا؟ الحقيقة أنّني لست مشتاقًا لجبل عامل على الإطلاق. والحقيقة أيضًا أنّني مشتاق بالمقابل لأقصى درجة ممكنة من فكّ الارتباط بجبل عامل. وأمّا الحقيقة الأساس، والأهمّ، فهي أنّ تعليق كلّ شيء على شمّاعة إيران لا ينفع. الطلاق بالخيارات بين مكوّنات لبنان سابق للنظام الإيراني الحالي، وسيبقى بعد سقوطه.
لماذا يتجنّب زعماء الموارنة الاعتراف بهذه الحقيقة، ويستسهلون الاكتفاء برجم إيران والخطاب السيادوي؟ الجواب متشّعب. ولكنّ المسألة الأساس، بتقديري، هي أنّ تسمية الأمور بأسمائها تقود حكمًا لطرح مسألة النظام. ومن تتمحور سياسته حول السعي لرئاسة نظام ما، لا يعمل على تغييره. وبهذا مفارقة هي في صميم قلقي الشخصي على مستقبل مسيحيّي لبنان – عنيت أنّ زعماءهم حرّاس ستاتيكو مفيد لهم كأفراد، ولكنّه قاصم لظهر مجتمعهم.