IMLebanon

المحكمة الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وآخرين [2]: قضاة الإثراء المشروع

 

خلافاً لمحاكم دولية أخرى انتُخب قضاتها في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، عيّن الأمين العام للأمم المتحدة عام 2009 قضاة المحكمة الخاصة بلبنان واختارهم بما يتناسب مع الأجندة السياسية التي وضعها مجلس الأمن. القضاة اللبنانيون محظوظون أكثر من زملائهم الأجانب. إذ إنهم يتقاضون رواتب مضخّمة مقارنة برواتب القضاة في المحاكم اللبنانية، مقابل نظرهم في قضية واحدة على مدى عشر سنوات. لكن إثراء هؤلاء القضاة مشروع بفضل الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة

 

يساهم لبنان بنسبة 49 في المئة من كلفة المحكمة الدولية، بحسب ما يمليه قرار مجلس الأمن الرقم 1757 (2007). وقد بلغت كلفة هذه المحكمة منذ انطلاق عملها عام 2009 نحو مليار دولار. وفيما يشارك لبنان عبر مندوب لدى الأمم المتحدة في نيويورك في اجتماعات مجلس إدارة المحكمة الخاصة ويطّلع على التقرير المالي المفصل، يُحجب هذا التقرير عن ديوان المحاسبة وعن مجلس النواب والحكومة، ويبقى سرّياً.

وتستقبل الدولة في لبنان عدداً من الموظفين الأجانب التابعين لقلم المحكمة ولمكتب المدعي العام وتؤمن لهم مواكبة أمنية وعسكرية. كما تمنح الحصانة الدبلوماسية لبعض هؤلاء وتعفيهم من تسديد الضرائب من دون الحصول على إذن بالإعفاء الضريبي من مجلس النواب والمجلس الأعلى للجمارك كما تقتضي الأصول القانونية.

وتخصص المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي وقيادة الجيش مئات العسكريين وعشرات الآليات العسكرية لحماية مقرّ المحكمة في المونتي فيردي والموظفين والقضاة وعائلاتهم في لبنان.

إضافة الى ذلك، ينتدب لبنان خمسة قضاة الى المحكمة الخاصة، اثنان منهم (من أصل خمسة) في غرفة الاستئناف: القاضيان رالف رياشي وعفيف شمس الدين؛ وقاضية (من أصل ثلاثة) في غرفة البداية: القاضية ميشلين بريدي؛ وقاض رديف لغرفة البداية: القاضي وليد عاكوم؛ وقاض خامس نائباً للمدعي العام الدولي: القاضية جويس تابت.

لكن بما أن القضاة رياشي وشمس الدين وبريدي وعاكوم وتابت يقولون إنهم يحترمون مبادئ العدالة والإنصاف، أوليس من العدل أن يدقق ديوان المحاسبة في صرف أموال الخزينة في المحكمة التي يعملون تحت سقفها؟ وماذا يعني خلاف ذلك بنظرهم؟

رواتب هؤلاء القضاة تفوق رواتب زملائهم في المحاكم اللبنانية، لكن إثراءهم من خلال المحكمة الخاصة يعدّ إثراءً مشروعاً إذا سلمنا بأن مجلس الأمن الدولي هو مصدر الشرع، لا الدستور ولا المجلس التشريعي الذي انتخبه الشعب. لكن لا عدل في الأمر لو سلّمنا بقاعدة أن يتقاضى كل قاض بحسب إنجازاته وساعات وظروف عمله. فما هي إنجازات المحكمة التي عمل فيها قضاة لبنانيون سنوات طويلة تقاضوا خلالها الملايين من خزينة الدولة ومن الدول المساهمة؟

أكدت المتحدثة باسم المحكمة وجد رمضان (في كانون الأول 2016) أن «في المحكمة الخاصة بلبنان، تُحسب الرواتب الشهرية على أساس سلّم الرواتب المعمول به في الأمم المتحدة. وفي ما يخص قضاة المحكمة الخاصة بلبنان، فإن هذا الراتب هو نفسه لجميع القضاة، سواء أكانوا يعملون في لبنان أم في هولندا». وبالتالي فإن القاضية جويس تابت مثلاً، التي تقيم وتعمل لمصلحة مكتب المدعي العام الدولي في لبنان، تتقاضى راتباً يفوق الراتب الرسمي المخصص للمدعي العام اللبناني والراتب الرسمي المخصص لرئيس مجلس القضاء الأعلى في لبنان.

المحكمة الخاصة بلبنان تدّعي على موقعها الإلكتروني الرسمي أن الجمع بين قضاة لبنانيين ودوليين «يعني تطبيق القانون اللبناني تطبيقاً سليماً بما يضمن في الوقت ذاته نزاهة الإجراءات. تضمن الخبرة الكبيرة لدى قضاة المحكمة الالتزام بأسمى المعايير الدولية للعدالة الجنائية» (1). هذا الادعاء يجافي الحقيقة، حيث إن تطبيق القانون اللبناني تطبيقاً سليماً يقتضي الالتزام بقانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني لا بقواعد الإجراءات والإثبات الخاصة بالمحكمة الخاصة.

ولا بد هنا من التذكير بالمادة الأولى من قانون أصول المحاكمات الجزائية الذي يعنى بتنظيم القضاء الجزائي وتحديد اختصاصه والإجراءات «الواجب اتباعها في التحقيق والمحاكمة لديه وأوجه الطعن في الأحكام والقرارات الصادرة عنه. كما يعنى بتنظيم الكشف على الوقائع الجرمية والأدلة عليها توسلاً لتطبيق القوانين الجزائية» (2). أليس من «واجب» محكمة تدّعي «تطبيق القانون اللبناني تطبيقاً سليماً» اتباع إجراءات المحاكمات وتسلسلها بحسب ما جاء في قانون أصول المحاكمات اللبناني؟

الرئيس السابق للمحكمة الخاصة بلبنان القاضي دايفد باراغواناث أجاب عن السؤال «كيف لعمل المحكمة (الخاصة بلبنان) أن يساهم في تحقيق سيادة القانون في لبنان؟» (3)، قائلاً: «المساهمة في تحقيق سيادة القانون في لبنان هي الغاية التي من أجلها أُنشئت المحكمة. وتتمثل مهمّتنا الرئيسية طبعاً في معالجة القضايا المرفوعة أمامنا بإنصاف. وذلك بأن نعالج تلك القضايا بصورة موضوعية وعلى النحو الواجب، وبأن يشهد لنا الجميع بذلك. وعندما يقف اللبنانيون على ما يحصل من تطبيق لقوانينهم الوطنية على قضايا نشأت في بلدهم، تكون مساهمتنا قد تحققت. وإنما ثمّة مسؤولية أكبر. إن الأحداث التي شهدها لبنان ناتجة، في ما يبدو، من حسّ بالإفلات من العقاب على أثر وقوع سلسلة من الاغتيالات بقيت من دون جزاء. فالإفلات من العقاب يتعارض وسيادة القانون.

قضاة يتجوّلون في مواكب أمنية ضخمة تنافس المواكب المسلّحة للسياسيين في إزعاجها للمواطنين

إذ يقتضي تحقيق سيادة القانون مساءلة مرتكبي الجرائم كافّة أمام المحاكم. وتوقعاتنا، وأملنا، أن يعودوا الى لبنان عاجلاً أو آجلاً في غياب أي حسّ بالإفلات من العقاب، وأن يُعترف للمحاكم اللبنانية بأنها قادرة على التصدي لتلك المسائل وأنها ستتصدى لها فعلاً. فوجودنا مؤقت، ونتطلع الى إنجاز عملنا على وجه السرعة».

يأمل القاضي باراغواناث أن «يشهد الجميع» له ولزملائه في المحكمة التي كان يترأسها، لكن تلك الآمال لم ولن تتحقق بسبب الانقسام الحاد بين اللبنانيين بشأن المحكمة الدولية. كيف يمكن أصلاً أن يقدم «الجميع» شهادة من هذا القبيل، بينما تبدو إجراءات المحكمة الخاصّة وهيكليتها وجزء كبير من القوانين التي تعتمدها غريبة عن اللبنانيين ومخالفة لأصول المحاكمات القائم في لبنان (راجع الحلقة الأولى من هذه السلسلة)؟ فهو يجافي الحقيقة من خلال ادّعائه أن القوانين اللبنانية تطبق في المحكمة الدولية. كيف يقبل القاضي أصلاً أن يكون أداة دعاية إعلانية وبروباغاندا للمحكمة، بينما يفترض أن ينحصر عمله في الشؤون القضائية البحتة؟

تناول الرئيس السابق للمحكمة الخاصة بلبنان «مساءلة مرتكبي الجرائم كافّة أمام المحاكم»، بينما تبقى معظم الجرائم التي وقعت منذ محاولة اغتيال النائب مروان حمادة حتى انطلاق عمل المحكمة في الأول من آذار 2009 وبعد ذلك، من دون أي مساءلة قضائية جدّية. ولم يصدر حتى اليوم، بعد مرور عشر سنوات على انطلاق عمل المحكمة، أي قرار اتهامي في جرائم اغتيال النواب: جبران تويني ووليد عيدو وأنطوان غانم، والصحافي سمير قصير والضباط: فرنسوا الحاج ووسام عيد ووسام الحسن، وغيرهم.

ولم يوضح القاضي كذلك على ماذا يستند للتعبير عن توقعاته بأنه «يُعترف للمحاكم اللبنانية بأنها قادرة على التصدي» للإفلات من العقاب. حيث إنه لا توجد أي إشارات جدية تدلّ على ذلك في ظل الغياب التام لمبادرات الإصلاح الجدية للقضاء اللبناني.

لكنها محكمة خاصّة وخاصّة جداً، إلى درجة تحوّل قضاتها الى أدوات إعلامية. إذ إن جميع قضاتها بمن فيهم رئيستها الحالية باتوا نجوماً على تطبيق «يوتيوب»، ومن أكثر السياح انتظاماً في الفنادق الفخمة، ويتجوّلون في مواكب أمنية ضخمة تنافس المواكب المسلّحة للسياسيين اللبنانيين الفاسدين في إزعاجها للمواطنين وتسبّبها بزحمة سير.

 

الهوامش:

(1)http://www.stl-tsl.org/ar/about-the-stl/structure-of-the-stl/chambers

(2) قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد، القانون الرقم 328 تاريخ 7 آب 2001 كما عُدل بالقانون 359 تاريخ 16 آب 2001. إشراف المحامي حسام عفيف شمس الدين، طبع وتوزيع مؤسسة المنشورات القانونية ــــ بيروت 2001

(