IMLebanon

مرحلة تصفية الحسابات في إيران

 

اعتدْنَا على مدَى أربعةِ عقود على كل أنواع المواجهات الإيرانية – الأميركية، في ظلِّ عهود أميركية مختلفة وظروف إقليمية مختلفة. وشهدنا حشوداً إيرانية تنزل إلى الشوارع احتجاجاً على تزوير الانتخابات أو عنف السلطة. غير أنَّنا يمكن أن نغامر بالقول إنَّ المرحلة الحالية من المواجهة بين إدارة دونالد ترمب وحكام إيران هي مرحلة استثنائية، ستترك انعكاساتِها على علاقات البلدين وعلى العلاقات الإيرانية – الغربية عموماً، ويأمُلُ المرءُ أنْ تتركَ انعكاسات كذلك على الوضع الداخلي في إيران.

المرحلة استثنائية لأنَّها من المرات القليلة التي يجد النظام الإيراني نفسه فيها في قفص الاتهام، ليس أمام العالم فقط، بل أهم من ذلك أمام الشعب الإيراني. وهو ما أيقظ الأصوات التي كانت خجولة في انتقاداتها داخل إيران، لأنَّها أصوات مهمَّشة عادةً في عملية اتخاذ القرار.

وهي من المرات القليلة أيضاً التي تصعِّدُ فيها إدارة أميركية إلى هذا الحد مع النظام الإيراني، وصولاً إلى قرار القضاء على قاسم سليماني، الموصوف حقاً بأنَّه كان «الرجل الثاني» في هذا النظام، بعدما تردَّدت إدارات أميركية سابقة في اتخاذ هذا القرار.

مرحلة جديدة إذن داخل إيران وفي علاقاتها الدولية. الرئيس الإيراني حسن روحاني، كان في طليعة من قالوا إنَّ إسقاط «الحرس الثوري» للطائرة الأوكرانية كان «خطأ لا يُغتفر»، ودعا إلى ضرورة إجراء تغييرات جذرية في طريقة إدارة إيران. كما انتقد أسلوب إخفاء الحقائق عن الإيرانيين.

من الجهة الأخرى، كان الرئيس ترمب ووزير خارجيته مايك بومبيو، يؤكدان أنَّه لا نيةَ لدى واشنطن لإسقاط النظام الإيراني، وأنَّ المطلوب هو أنْ تتحولَ إيران إلى «دولة طبيعية» في علاقاتها مع جيرانها ومع العالم، وهو ما كان على كل حال هدف جيران إيران منذ قيام نظامها الحالي. فيما دعتِ الإدارة الأميركية والدول الأوروبية إلى اتفاق نووي جديد مع إيران، بعدما أعلنت أنَّها لم تعد ملتزمة بالاتفاق الحالي، في ردِّها على مقتل سليماني.

ليست هذه أفضل أيام «الحرس الثوري». خسر أحد أبرز قادته الذي قاد أهم عملياته الخارجية في العراق ولبنان واليمن وغيرها من الامتدادات الإيرانية. ثم تعرض لأكبر ضربة لمعنوياته الداخلية بالحملة القائمة عليه بعد اعترافه المتأخر بإسقاط الطائرة الأوكرانية. وفوق ذلك هناك الهجوم الذي يتعرض له من قوى سياسية في الداخل. ويبدو كأنَّ روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف، وهما صاحبا اليد المغلولة في صناعة القرار الإيراني، وجدا الفرصة مناسبة لشن هذه الحملة على «الحرس» فيما هو محشور في الزاوية، ومتهم بقلة الخبرة في الرد العسكري، وبالكذب بعد تعمُّدِه إنكارَ إسقاط الطائرة حتى عن قيادة بلده، وبعدم الاكتراث بمصير المدنيين من إيرانيين وسواهم، وذلك بعدم إقفال مطار طهران أمام الملاحة الجوية، فيما كانت القواعد العسكرية لـ«الحرس» مرابطة إلى جانب المطار بعد تنفيذها «الغارات الإعلامية» على القاعدتين في العراق.

كان يمكن لـ«الحرس الثوري» أن يوظف مقتل قاسم سليماني لحشد التأييد واستعادة الهيبة والمتاجرة بصورة «الضحية» أمام «الاستكبار الأميركي». غير أنَّ غرور القوة لم يترك مجالاً لكسب الأوراق في هذه المواجهة المديدة بين الولايات المتحدة وإيران. التخبط في السلوك السياسي انعكس بأبهى صوره على التخبط العسكري، فلم يعد رجل «الحرس» الذي يطلق العنان لقذيفته قادراً على التمييز بين صاروخ «كروز» وطائرة «بوينغ».

لم يعد الحديث الآن عن انتقام وفتح حسابات مع دونالد ترمب. الحديث اليوم هو عن ترتيب البيت الداخلي بين رئاسة الجمهورية وقيادة «الحرس» ومحاولة ضبط عملية اتخاذ القرار في دولة تفاخر بحصافة قادتها وحسن تدبيرهم للأمور. نحن نشهد اليوم صراعاً علنياً على الصلاحيات بين حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف من جهة، وقادة «الحرس الثوري» من الجهة الأخرى. الفريق الأول يتهم الثاني بعدم إبلاغه بإسقاط الطائرة الأوكرانية، أما قادة «الحرس» المسؤولون عن الجريمة فلم يجدوا أمامهم سوى الولايات المتحدة ليتهموها بالمسؤولية، على أساس أنَّها لو لم تقتل سليماني لما كان «الحرس» مضطراً للرد على القواعد الأميركية في العراق، ليجلس بعدها منتظراً الرد الأميركي الذي تخيّله آتياً على صورة طائرة مدنية!

هكذا غرق «الحرس الثوري» في أزمة داخلية لطَّخت سمعته. والإيرانيون الذين نزلوا إلى شوارع المدن الإيرانية يشيعون سليماني، عاد القسم الأكبر منهم بعد أيام قليلة لينزع صور سليماني عن الجدران، متحدياً هيبة «الحرس» والقيادة الإيرانية، بما فيها المرشد علي خامنئي بشعار «يسقط الديكتاتور». وكان السؤال على لسان كثيرين من المحتجين والمتظاهرين: إذا كنتم تستطيعون تجنُّبَ قتل عسكريين أميركيين في غاراتكم على العراق انتقاماً لمقتل سليماني فلماذا عجزتم عن تجنب قتل 145 مدنياً إيرانياً كانوا بين ركاب الطائرة الأوكرانية؟

إعادة تلميع صورة «الحرس الثوري» وما يمثله في إيران لن تكون سهلة. ليس فقط بسبب المكانة التي احتلها قاسم سليماني والتي يصعب تعويضها. ودموع خامنئي أمام الجثمان أكبر شاهد. الصراع الداخلي التقليدي بين قوى «الثورة» وقوى «الدولة» لا بد أن يحتدم قبل شهر من الانتخابات النيابية، فيما الرئيس روحاني يدعو السلطات التي تشرف على الانتخابات، وبصراحة استثنائية، إلى عدم رفض طلبات المرشحين الذين لا يتفقون مع أهواء السلطات، وحجة روحاني، كما قال، أن «الشعب يريد التنوع».

من جهة أخرى، هناك الكباش المحتدم مع ترمب، الذي تجد إيران نفسها أمامه عاجزة عن أي ردٍّ يتجاوز السقف الذي يسمح ترمب لها به. لقد أكد الرئيس الأميركي امتلاكه قوة الردع تجاه الغطرسة الإيرانية في أي وقت يشاء. وردّ إيران الباهت يؤكد أنَّ الرسالة الأميركية وصلت وسقف التهديدات الإيرانية بالتالي صار منخفضاً ومحسوباً.

يبقى طبعاً الجانب المتعلق بدور «الحرس» في المنطقة. وبقدر ما يمكن القول إنَّ لبنان في مرحلة أزمته المستعصية هو إحدى ضحايا النفوذ الإيراني، لا بدَّ من الانتباه إلى الأصوات المرتفعة في العراق، وخصوصاً من المرجعية الشيعية، والتي تدعو إلى استعادة السيادة العراقية، ووقف التدخلات الخارجية.

مرحلة إعادة حسابات وقراءات جديدة في إيران. مع أنَّ من الصعب توقع نتائج باهرة في إقليم لا يحسن القراءة ولا يتعلم من التاريخ.