IMLebanon

قمة وارسو والتنافس الاستراتيجي في الشرق الأوسط

 

أن يختار وزير الخارجية الأميركي مايك بامبيو، الإعلان عن القمة الدولية التي ستنعقد في العاصمة البولندية وارسو، 13 و14 شباط (فبراير) الجاري، وذلك ضمن الجولة التي قادته إلى عدد من دول المنطقة العربية، فهذا، وإن كان يطرح التساؤل حول الرسائل التي أرادت الإدارة الأميركية توجيهها إلى دول المنطقة؛ إلا أنه، في الوقت نفسه، يطرح تساؤلات متعددة حول التوقيت، توقيت انعقاد القمة، وكذا حول المكان «وارسو»، والأهم التساؤل حول التوجه الأميركي المقبل في شأن «الملف الإيراني»؛ إذ، على رغم أن هذا الملف ليس مُدرجاً على جدول الأعمال باعتباره بنداً مستقلاً، «إلا أنه لا يمكن الحديث عن ملفات الشرق الأوسط، من دون مناقشة أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في المنطقة»، بحسب تصريحات بعض مسؤولي الإدارة الأميركية.

 

 

ثم، وبحسب الإعلان عن توجيه الدعوة لنحو 70 دولة للمشاركة في قمة وارسو، على رأسها عدد من دول الخليج العربي ومصر والمغرب، إضافة إلى عدد من دول الاتحاد الأوروبي، مع عدم توجيه الدعوة إلى إيران وتركيا ولبنان؛ هذا، في الوقت الذي أعلنت فيه الخارجية الروسية عن عدم مشاركة روسيا في القمة، فذلك، يطرح التساؤل حول ملامح الاتفاق والاختلاف داخل القمة وخارجها؛ وهو التساؤل الذي يتوالد عنه نقاط استفهامية كثيرة حول التنافس الاستراتيجي في الشرق الأوسط، سواء من جانب القوى الدولية، أوالإقليمية.. أيضاً.

 

وفي ما يبدو، فإن دائرة تلك التساؤلات تلتقي عندها جوانب ثلاثة..

 

فمن جانب، يبدو بوضوح أن الإعلان عن القمة خلال جولة بامبيو في الشرق الأوسط يؤشر إلى مجموعة من الدلالات، أهمها أن قمة وارسو تُمثل «نقلة» دولية مهمة، تحاول الولايات المتحدة من خلالها إيجاد طريقة للحد من توسع القوة الإيرانية وتزايد نفوذها في المنطقة؛ بل، يمكن القول أن هذه القمة تأتي كخطوة مهمة، ضمن خطوات قامت بها الإدارة الأميركية خلال العامين الماضيين، أي منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.. فالولايات المتحدة انسحبت من الاتفاق النووي، ثم فرضت الحزمة الأولى من العقوبات على إيران، ومن بعدها الحزمة الثانية، التي بدأت تؤثر بعمق على الاقتصاد الإيراني. إضافة إلى أن واشنطن، من الناحية السياسية، قامت باستبعاد إيران من التفاهمات التي تجري حول الملفات المتفجرة في المنطقة؛ مثل الملفين السوري واليمني.

 

ومما يدفع في اتجاه تشديد العقوبات على إيران، التحول الحاصل في الموقف الأوروبي؛ حيث حاولت الدول الأوروبية ـ الرئيسة ـ النأي بنفسها عن ذلك في البداية، لحماية الشركات الأوروبية العاملة في إيران؛ إلا أنها بدأت في فرض عقوبات في أعقاب تورط الاستخبارات الإيرانية بعمليات اغتيال وتفجير ضد المعارضين الإيرانيين، في هولندا وفرنسا

 

والدنمارك.

 

فإذا أضفنا إلى ذلك ما يحدث، على صعيد المنطقة، من تململ ونفور من تزايد الدور والنفوذ الإيرانيين، يمكن وضع اليد على دلالة التوقيت في انعقاد قمة وارسو؛ حيث إن هذه الأخيرة ستستبق قمة تونس العربية، وهو توقيت ذو دلالة بخصوص احتمال التلاقي بين المُخرجات المحتملة لقمة وارسو، ونواتج هاتين القمتين، على الأقل من منظور مدى ما تمثله إيران من تهديد للمنطقة عبر أربع ساحات عربية.

 

من جانب آخر، يبدو بوضوح أن الرد الحازم من وزارة الخارجية الروسية بخصوص عدم المشاركة في قمة وارسو، إنما يعكس عمق الاختلافات بين القطبين الكبيرين، والتضارب في العلاقات بينهما؛ إذ، حالياً، تعتبر هذه العلاقات هي الأسوأ في تاريخها، خصوصاً لجهة تقسيم المصالح «الجغراسية» (الجغراسياسية)، والاقتصادية على المستوى العالمي. ليس هذا فقط، بل لجهة التهديدات الأميركية، والتوتر الحاصل في العلاقات بين روسيا وتركيا، على الأقل من منظور ما يحدث في إدلب السورية. ومن ثم، فإن نجاح العلاقة بين تركيا وأميركا يمكن أن ينعكس سلباً على علاقة أنقرة بموسكو، والعكس صحيح، في المسألة السورية

 

تحديداً.

 

أضف إلى ذلك، أن انعقاد القمة في وارسو تحديداً لا يعني سوى رسالة أميركية إلى روسيا، تذكرها فيها بـ«حلف وارسو» الذي تهاوى بعد تفكك الاتحاد السوفياتي السابق؛ وهي رسالة تتضمن تحد أميركي تجاه النهوض الروسي الواضح، ومحاولة للتأثير في التوترات الدولية القائمة بينهما، تلك التي وصلت إلى القارة اللاتينية. ولعل هذا ما يُذكرنا بمبادرة الدفاع الاستراتيجي (عام 1983)، التي أطلقها الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان، والتي عُرفت في ما بعد بـ«حرب النجوم».

 

وما يحدث اليوم، مع ترامب، يتوازى معها، نوعاً ما، لجهة تحديث القوة العسكرية الأميركية، والردع الصاروخي، ومراجعة العقيدة النووية، وكل ما يتعلق بها لأجل مواجهة روسيا.

 

من جانب أخير، يبدو بوضوح أن التحرك الأميركي، عبر قمة وارسو، يأتي في إطار نسف الدعم الأوروبي للاتفاق النووي، المبرم بين طهران ومجموعة «5+1» (عام 2015)، الذي انسحبت منه واشنطن من جانب واحد في العام الماضي. صحيح أن أوروبا لديها مشكلات متعددة مع النظام الإيراني، سواء تجاه سياساته في منطقة الشرق الأوسط، أو ما يشكله من تهديد إرهابي أو جنائي للأمن الأوروبي؛ إلا أنه يبقى من الصحيح، أيضاً، أن الموقف الأوروبي حول الاتفاق النووي، يختلف جذرياً عن الموقف الأميركي

 

ولعل هذا، ما يؤشر إلى دلالة اختيار الولايات المتحدة لبولندا، الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي، كي تكون شريكة في تنظيم القمة؛ فهو اختيار قد يؤدي إلى «تقسيم» الاتحاد الأوروبي بشأن الموقف من إيران عموماً، ومن الاتفاق النووي بشكل خاص؛ وهو ما يتأكد إذا لاحظنا الخلافات العميقة بين الولايات المتحدة والقوى الأوروبية الرئيسة، مثل فرنسا «العنيدة»، التي ذهبت باتجاه التعاون مع ألمانيا (لتجديد فكرة الجيش الأوروبي الموحد).

 

في هذا السياق، يتأكد لدينا أن قمة وارسو هي محاولة أميركية لـ«التيمن» بالمكان والاسم، لإنشاء تحالف جديد، من بعض الدول الأوروبية، خصوصاً تلك التي تشارك واشنطن المخاوف بشأن العديد من جوانب السلوك الإيراني، ودفعها إلى الانقلاب على الاتفاق النووي ومباركة العقوبات الأميركية.

 

بيد أن ذلك، وإن كان يعني توجيه البوصلة صوب طهران، فإنه، في الوقت نفسه، يلمح إلى مدى الاختلافات التي ستنجم عن القمة، في حال نجاحها، بين أطراف دولية عديدة، أهمها روسيا ومعها فرنسا وألمانيا وغيرهما، وبين الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا. وهو ما يعني ليس فقط ترسيخ الاختلافات داخل الاتحاد الأوروبي، وبين الاتحاد وروسيا، ولكن أيضاً تفعيل التنافس الاستراتيجي بين القوى الدولية حول الشرق الأوسط.

 

ويبقى التساؤل: إذا كان التهديد الإيراني حقيقي، ويتعين عدم التواني في التصدي له، فكيف يستفيد الجانب العربي من قمة وارسو، في إنشاء «كتلة عربية» تأخذ زمام المبادرة في مواجهة مثل ذلك التهديد، وغيره من القوى الإقليمية الأخرى؛ والأهم، تجاه التنافس الاستراتيجي الحاصل في المنطقة؟