IMLebanon

إلى حكومة أقطاب استثنائية : رداً على «صفقة العصر»

 

بعد أكثر من شهر من الانتظار، قدم الرئيس المكلف سعد الحريري تصوراً أولياً لنسبة الحصص الوزارية ـــ السياسية، كان بمقدوره تقديمه بعد ساعة واحدة من التكليف. هل استحق الأمر كل هذا الانتظار؟ وهل العقد التي لم يجد لها حلاً خلال عشرة أيام، يمكن أن يذللها خلال شهر ثان من التكليف، في ظل مؤشرات تشي بالعودة إلى الوراء؟

هل وضعنا اللبناني، استثنائي أم عادي؟

في الإقليم، من يدعونا إلى «صفقة القرن». جاءنا جاريد كوشنير صهر دونالد ترامب برفقة مبعوث سيد البيت الأبيض لما تسمى «عملية السلام في الشرق الأوسط» جيسون غرينبلات. الهدف هو تصفية القضية الفلسطينية. «إغراءات» متعددة قُدمَت إلى بعض العرب، وبعضهم الآخر، صار أكثر من شريك في «الصفقة»، وأولهم محمد بن سلمان ومحمد بن زايد. لم تعد اللقاءات السعودية ــــ الإسرائيلية ولا الإماراتية ــــ الإسرائيلية مخفية. أكثر من لقاء عقد بين بنيامين نتنياهو ومحمد بن سلمان في الأشهر الأخيرة، بحسب مصادر سعودية واسعة الإطلاع وليس استناداً إلى مصادر إسرائيلية.

الفلسطينيون متهيّبون، حتى محمود عباس، الذي يتعمد الأميركيون تهميشه وتجاهله وصولاً إلى البحث عن بدائل دحلانية له، لا يجرؤ على تجاوز «الوقائع». الملك الأردني عبد الله الثاني يخشى اهتزاز عرشه. إغراءات قمة مكة لم تكن كافية. هو مدرك أن «الصفقة» ستضع بلده ورأسه تحت جزمة بن سلمان. قوى المقاومة في فلسطين، وضعت نفسها في مواجهة «الصفقة». مسيرات العودة جزء من هذه المواجهة، ولن تتوقف. الجولة الصاروخية الأخيرة مع الاحتلال منعته من فرض قواعده الخاصة. لم تعد المقاومة مكبلة اليدين بل قادرة على فرض قواعد اشتباك جديدة ومكلفة للعدو.

في سوريا، لا عودة إلى الوراء. مسار استعادة الدولة السورية سلطتها على أراضيها هو مسار تراكمي. كل التحذيرات الدولية والإسرائيلية لم تحل دون انطلاقة معركة الجنوب السوري. الأخطار موجودة، وأبرزها إمكان دخول الولايات المتحدة أو إسرائيل أو كلاهما، على خط «الجبهة الجنوبية». يقود ذلك حتماً إلى سؤال المواجهة. لن يتراجع الإيرانيون إلى الوراء (دمشق أو ما بعدها شمالاً وشرقاً)، ولن يكون سهلاً على الإسرائيليين فرض قواعد اشتباك وافقت عليها الدولة السورية قبل 45 عاماً.

لا ضرورة لعرض مشاهد أخرى من الإقليم. من مصر وليبيا وتونس إلى اليمن والعراق والبحرين والخليج مروراً بتركيا.

هذا في الإقليم، أما لبنانياً، فلن يكون البلد بمنأى عن كل حراك الإقليم. «صفقة القرن» سيدفع ثمنها الفلسطينيون أولاً، وبينهم بطبيعة الحال أهل الشتات. فهل نملك تصوراً لبنانياً لمواجهة تداعيات شطب قضية العودة، وبالتالي ما هي مصائر كتلة تقدر بنحو 300 ألف فلسطيني في لبنان؟ وكيف للمواجهة أن تكون شاملة، وبوسائل مختلفة؟ ثم هل يفكر عاقل في لبنان بإمكان فتح الباب أمام مشروع التوطين ومن سيدفع الكلفة؟ زد على ذلك، أن هناك من يريد للتوطين أن يكون مزدوجاً، أي فلسطينياً وسورياً، بدليل كل معطيات التعامل الدولي، وخصوصاً الأوروبي مع قضية النازحين السوريين إلى لبنان. يصح القول من دون مبالغة أننا أمام مشروع تفجير جديد للبلد وتغيير لهويته وإدخاله في أتون حروب أهلية تبدأ ولا تنتهي.

الخطر الإسرائيلي موجود في كل يوم. صحيح أن خطر الإرهاب تراجع ولم يعد يقلق لبنان واللبنانيين، كما كانت الحال قبل سنوات. ولكن لا بأس بالتذكير أن هناك من دفع فاتورة هذه المظلة الوطنية. لكن الاحتياط واجب.

إنه لبنان. لم يكن منذ الاستقلال دولة. هو مرآة عاكسة تاريخياً، لكنه وللمرة الأولى، لا يتأثر وحسب، بل يصبح قادراً على التأثير في مسارات الإقليم. هذه قيمة أن يكون حزب الله لبنانياً، ولو حاول البعض نزع الثوب الوطني عنه… وصولاً إلى رجمه و«شيطنته» و«فرسنته».

وكما لم ينفصل مصير لبنان تاريخياً عن مصير سوريا، ولن ينفصل، فإن معظم التسويات أو الحروب أو الأزمات الوطنية، ما كانت بمعزل عن عناصر خارجية. النماذج كثيرة من معركة ميسلون عام 1920 ومن بعدها ولادة لبنان الكبير إلى الحرب السورية منذ سبع سنوات حتى اليوم وما يمكن أن يُعَدّ للبنان في المستقبل القريب. ومن الطائف في عام 1989 إلى الدوحة في عام 2008، مروراً بالقرار 1559، حيث كل حدث، لم يكن منفصلاً عن معطى خارجي، سواء أكان إقليمياً أم دولياً.

لهذه الأسباب وغيرها، ولأن «الصفقة» تقترب، لا بد من تذليل كل العقبات التي تعترض طريقها. «التذليل» قد يتخذ شكل تصفية أو اغتيال أو حرب أو فوضى أو أي شيء مختلف عما عرفناه من أساليب وظيفتها أن تمهد «على السخن» أو «على البارد» للآتي نحونا.

وطالما هناك في الجسم اللبناني والعربي شيء اسمه مقاومة، سيحتاج الأميركيون والإسرائيليون وأدواتهم إلى كبير عناء لتمرير صفقتهم، فأين تقف حكومة النأي بالنفس القديمة أو الجديدة، عن هذا المعطى الكبير؟ أين يقف العهد نفسه؟ هل يقتضي الأمر سلوك دروب غير عادية في مواجهة أوضاع استثنائية؟

هنا، تتبدى، أولاً، مسؤولية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وهي مسؤولية تاريخية، يمكن أن تضعه في مصاف القادة التاريخيين لبلده. آن الأوان للخروج من «جل» لبنان القوي. نعم، لبنان القوي يكون بعهد لكل اللبنانيين. يقيس الأمور وطنياً وليس من زواريب الموارنة أو «حواكير المسيحيين» أو حسابات السلطة والمنافع والتوريث.

لبنان القوي يكون بدعوة سعد الحريري إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية استثنائية. برئاسته حتماً، احتراماً لنتائج الانتخابات النيابية، وتضم إليه من يرشحهما الرئيس نبيه بري والسيد حسن نصرالله عن حزب الله وحركة أمل (على صورة «الخليلين»)، ووليد جنبلاط وطلال إرسلان عن الدروز ونجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة وتمام سلام عن السنّة وسمير جعجع وجبران باسيل وسليمان فرنجية وأمين الجميل وعصام فارس وآغوب بقرادونيان عن المسيحيين وغيرهم من الأسماء الوازنة.

فلتكن حكومة أقطاب أو أقوياء، من القادرين على تحمل مسؤولية «القرار»، بمعزل عن اصطفافات 8 أو 14 آذار، أو اصطفافات المال والصفقات. حكومة يقترن عمرها بمهامها غير العادية، وعندما ينتفي الاستثناء، تُناقش بدائلها. هكذا حكومة يحتاجها لبنان، في هذه اللحظة الإقليمية الاستثنائية، فهل يبادر رئيس الجمهورية، من حيث لا يجرؤ الآخرون؟

في لبنان، يبحث اللاعبون عن صيغ تجعلهم محاطين حصراً بالـ«صغار»، كما هي حالة سعد الحريري

 

إذا كانت الحسابات التي تتحكم بالتأليف الحكومي مرتبطة برئاسة الجمهورية المقبلة ومعها حسابات السلطة والنفوذ، في هذه الدائرة الطائفية أو تلك، يصبح الرهان صعباً، خصوصاً أن العقلية الإقصائية إذا لم نقل الإلغائية، تتحكم بقرار بعض أهل السلطة، وليس غريباً أن يردد البعض مثلاً «فلتكن حكومة من دون القوات» أو «فلتكن حكومة أقوياء فقط وبلا الفراطات».

هذه حسابات «دكنجية» وليست حسابات وطنية. المؤسف أن تصبح المعادلة الحكومية رهن «فجعان» أو «مفلس»، لذلك، تصبح مفهومةً هذه الشهية على الوزارات الدسمة، من زاوية ما يمكن أن تقدمه، هذه الحقيبة أو تلك، للجمهور الحزبي ربطاً بحسابات انتخابية ومالية، خاصة وعامة؟

كان ينبغي كسر قواعد اللعبة. أن يعاد النظر في تسمية الحقائب السيادية من غير السيادية. أن تستحدث وزارات جديدة وتلغى أخرى لا حاجة لها. من هنا، وطبعاً من مطارح أخرى، يمكن مقاربة ملف الحد من الفساد.

المؤسف أن الدروب المؤدية إلى الحكومة الموعودة، لا تبشر، اليوم، سوى بأيام صعبة، سياسياً واقتصادياً ومالياً. ستتشكل الحكومة في نهاية الأمر. لا أحد يريد أن يفرّط خارجياً بمظلة الاستقرار. هذا معطى دولي وإقليمي راسخ «حتى الآن» (مع التشديد على كلمتي «حتى الآن»).

ستتشكل الحكومة، ولن تُبدل مراهنة البعض على إنهاك المنتظرين وإتلاف أعصابهم، من حقيقة أن هناك من سيخرج من «المولد» بلا حمص (طلال إرسلان وسنة 8 آذار وحزب الكتائب والحزب القومي). هذه النظرة، هناك من يُروّج لها على قاعدة «ترييح» التوزير المسيحي، طالما أن هناك قوى نيابية وازنة تستطيع أن توفر لمثل هذه الحكومة ثقة نيابية تتجاوز المائة صوت، وللآخرين، إذذاك، أن ينتقلوا إلى المعارضة، ولا بأس أن يقودهم نجيب ميقاتي بالشراكة الكاملة مع سليمان فرنجية (إذا شمله الإقصاء) وسامي الجميل.

حتماً، ليس بمثل هكذا نظرة، يُقارب الملف الاقتصادي والمالي المتأزم أصلاً، والقابل لأن يكون أكثر دراماتيكية، وفق تقديرات معظم الخبراء الاقتصاديين… وطبعاً ليس بمثل هذه النظرة يقارب الملف الإقليمي الخطير، لكنه لبنان. فيه، يبحث اللاعبون عن صيغ تجعلهم محاطين حصراً بالـ«صغار»، كما هي حال سعد الحريري، عندما يقارب ملف بيته الداخلي ـــــ بعد الانتخابات ـــــ بإقصاء نادر الحريري ومحاصرة نهاد المشنوق… وللبحث صلة.