IMLebanon

التنحي بلسم جراح الصدمات والخيبات

 

 

جاء القرار المباغت الذي اتخذه رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري يوم السبت 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 في أيام تبعث في نفسه شعوراً وجدانياً يتسم بالشجن سببه تزامُن قرار التنحي مع الذكرى الثالثة والسبعين لميلاد والده رفيق الحريري الذي قضى في أبشع عملية اغتيال يوم الاثنين 14 فبراير (شباط) 2005، وكان زمنذاك يعيش حالة من المعاناة السياسية تشبه في بعض جوانبها الحالة التي يعيشها الحريري الابن الذي ظن في حياكته عباءة ترئيس الجنرال ميشال عون أنه سيعوِّض في ترؤسه الحكومة الجرح المعنوي العميق الذي أصابه يوم أسقط ملعوب سياسي من جانب نواب «حزب الله» وحزب عون حكومته فيما هو في لقاء مع رئيس الولايات المتحدة باراك أوباما (12 يناير كانون الثاني 2011) يسعى لتدعيم سياسي وعسكري للبنان يعزز فيه دوره كرئيس للحكومة.

استناداً إلى ما ورد في رسالة الاستقالة من رئاسة الحكومة، التي وجَّهها من الرياض وعبْر فضائية «العربية»، فإن ما كان سيصيب الحريري الابن هو ما أصاب والده بتفجير موكبه، لو لم يغادر بشكل مفاجئ إلى الرياض، وبعدما كان ترأس في السراي الحكومي التي أعاد رفيق الحريري إليها رونقها من خلال الترميم والتأثيث والتطوير، جلسة لمجلس الوزراء لم يلاحظ أحد من الحاضرين أن رئيسهم في صدد اتخاذ خطوة صاعقة هي تلك التي أعلن عنها من الرياض، والتي كان من الصعب عليه إعلانها في الجلسة الحكومية، أو بعد انتهائها، وعبْر الفضائيات والإذاعة اللبنانية، كاظماً تساؤلات المتسائلين المستغربين أن رسالة الاستقالة أعلنها من الرياض وعبْر منبر إعلامي فضائي سعودي. والذي يؤكد لغز اختيار الرئيس سعد الحريري الزمان والمكان والوسيلة لإعلان قراره المباغت، هو ما لمح إليه لجهة استهدافه، وذلك من خلال عبارة «إننا نعيش أجواء شبيهة بالأجواء التي سادت قبيل اغتيال الشهيد رفيق الحريري ولمستُ ما يحاك في الخفاء لاستهداف حياتي…».

من الجائز الافتراض أن رسالة التنحي كُتبت قبل فترة زمنية بين الزيارة الأولى للرياض الاثنين 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إذ التقى ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وبثت وكالة الأنباء السعودية صورة اللقاء ثم اجتمع بعد ذلك بوزير الدولة لشؤون الخليج تامر السبهان صاحب التغريدات الصاروخية التي استهدفت «حزب الله» وأمينه العام السيد حسن نصر الله، التي قال حولها الحريري أمام جلسة مجلس الوزراء يوم الخميس 2 نوفمبر «إن الأمور جيدة مع المملكة العربية السعودية والعلاقة على أفضل ما يكون، فالمملكة حريصة جداً على الاستقرار في لبنان، وكل ما يُذكر في الإعلام غير ذلك مجاف للحقيقة»، والزيارة المباغتة التي قام بها، وبدت كما لو أنها من أجل أن يعلن عبْر فضائية «العربية» استقالته في رسالة يؤكد طولها وصياغتها أن إعدادها كان متقناً، وأن الصياغة والكتابة اقتصرت على الشخص – الثقة الذي يصوغ ويكتب عادة كلمات المناسبات الحريرية.

وهذه السرعة لجهة اتخاذ القرار، وكذلك سيناريو الإعلان عنه زماناً ومكاناً أوجبت الإيحاء بأنه لا مفاجآت قيد الإعلان عنها، حتى أنه يوم مغادرة الحريري إلى الرياض في زيارة إعلان الاستقالة، كانت صحيفة «المستقبل» المملوكة له تضع كعنوان رئيسي لصفحتها الأُولى: «الحريري: نتائج إيجابية قريبة لزيارة الرياض»، فيما الأوساط السياسية بجناحيْها السعودي والإيراني تواصل الاهتمام بالزيارة المرتقبة للسعودية التي سيقوم بها البطريرك الراعي الذي قال في مقابلة تلفزيونية معه «إنني سوف ألبي الدعوة الرسمية لزيارة السعودية بعد أسبوعيْن ليوم واحد تشمل لقاء الملك سلمان وولي العهد وهي غير مشروطة، وخطابي خطاب سلام، وهذه الدعوة ليست من اليوم، بل جاءت من المغفور له الملك عبد الله بن عبد العزيز في شباط 2013 لكنها تزامنت مع انتخاب البابا، وقد أجَّلْنا الزيارة وتسارعت الأحداث».

وإلى ذلك كان هنالك كلامٌ يندرج في بند التكهنات حول موقف تبلغه الحريري من الدكتور علي أكبر ولايتي مستشار المرشد علي خامنئي للشؤون الدولية، خلال استقباله قبل المغادرة إلى الرياض لوفد إيراني من دون أن يصدر عنه تعليق أو تصريح حول اللقاء، فيما ولايتي أدلى بتصريح أشاد فيه بالحريري، معتبراً الحكومة الائتلافية التي يترأسها «تشكِّل انتصاراً ونجاحاً كبيراً للبنان الذي تدعم إيران دائماً استقلاله وقوته…»، ومباركاً للشعب اللبناني الانتصار على الإرهاب.

ما ارتأى سعد الحريري اتخاذه كان أكثر من نقطة نظام في وجه الشريك الأول له الرئيس ميشال عون الذي ابتكر في الإطلالة التلفزيونية مساء الاثنين 30 أكتوبر 2017 لمناسبة الذكرى الأولى للترؤس، تخريجه لمعادلة «الشعب والجيش والمقاومة» ظن أنها ترضي حليفه «حزب الله»، ويتقبلها شريكه سعد الحريري، وهي أن مسألة سلاح «حزب الله» والمقاومة عموماً تنتهي بالتوصل إلى حل نهائي لأزمة الشرق الأوسط، أي إلى ما بعد قيام الدولة الفلسطينية. واعتبر الحريري، وهو يجتمع في الرياض إلى ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، أن لا سبيل إلى رؤية مشترَكة في هذا الشأن، وأن رئيس الجمهورية بدا في قوله هذا كمَن يضع قطرات ماء على شتلة لكي تبقى نضرة. ثم جاء رد فعل البطريرك الراعي المدعو للقيام بزيارة سياسية إلى الرياض يلتقي مع استغراب سعد الحريري لهذه التخريجة العونية، وتكتمل بذلك دواعي الخطوة التي عليه أن يتخذها بعد التشاور مع نفسه دون الغير. وقد يكون استحضر الذي أصاب والده، وكيف أنه لو آثر الابتعاد عملاً بنصيحة وليد جنبلاط لما كانت حدثت واقعة التفجير ودخل لبنان في المجهول. ومثل هذا الابتعاد قام به ريمون إده، أحد القلائل المستقيمي الرأي في الزعامات السياسية في الطائفة المارونية، عندما اعتمد التنحي من أحلام الترؤس الذي يستحقه، وما يكتنفه من المخاطر واختيار باريس ملاذاً آمناً له وحتى وفاته.

خلاصة القول إن أجواء الزيارتيْن اللتيْن قام بهما إلى الرياض وتعميم صورة سيلفي التي نشرها على «تويتر» وتجمعه مع الوزير تامر السبهان، إضافة إلى تأكيده على «الوفاق التام مع القيادة السعودية حول استقرار لبنان وانتمائه إلى فضائه العربي» ثم بعد ذلك عززت التوقعات بانفراج نوعي لمصلحة لبنان، ثم جاءت الاستقالة تنقل اللبنانيين من حالة ترقُّب ما من شأنه تبديد الإحباط إلى حالة من الحيرة وخشية على ما سبق أن سوَّقت له إحدى تغريدات الوزير السبهان، وقوله إن لبنان على موعد مع ما سيكون مذهلاً بالمعنى السلبي للذهول.

هذه الحالة الناشئة عن تنحي الحريري سبقتْها حالة مماثلة، وضمن سياق التعبير الشعري، مع بعض التعديل، تعددت الموجبات والتنحي واحد (تعددت الأسباب والموت واحد)، هي حالة التنحي البارزانية التي كان لا مفر من الأخذ بها علاجاً لصدمة تداعيات الاستفتاء وبلسماً لجراح خيبة أمل مسعود بارزاني من أصدقاء قريبين ومقربين وبعيدين، أبرزهم الإدارة الأميركية والحكومة الفرنسية.

الجراح والصدمات في أوساط صانعي القرارات في الأمتيْن كثيرة. وليس هناك ما هو أكرم من التنحي في بعض الأحيان كعلاج هو أشبه بالبلسم الذي قد يخفف الألم من دون أن يمحي آثار الندوب.