IMLebanon

تونس: الأمل مرة أخرى

تُلهمنا تونس مرة أخرى. ألهمتنا في أواخر العام 2010 بالثورة، وتلهمنا الآن بالانقضاض على الثورة المضادة انتخابياً، ديموقراطياً، سلمياً، ومن دون حرب أهلية. تلهمنا تونس وتعلّمنا أننا نحن العرب نستطيع أن نصنع قدرنا. الحرب الأهلية في المشرق تعبّر عن عجز عن صنع المستقبل. الارتباك في مصر عجز عن ولوج المستقبل بإرادة شعبية. دول النفط جاهزة لالتهام كل إنجاز عربي بما في ذلك الثورة. تدفق النفط منها، وتدفق بعض مال النفط إليها، وتدفق المذهب الوهابي منها، متلازماً مع إيديولوجية إسلاموية رعتها قوى الاستبداد النفطية في تحالفها مع الغرب الإمبريالي منذ عقود؛ كل ذلك جعل الثورة المضادة واقعاً شبه مؤكّد. ساهم تحالف المذهب والنفط والهيمنة الغربية الرأسمالية في تصحير الثقافة العربية كما في تصحير الأراضي العربية. امتدت الصحراء كي تشمل معظم الأراضي التي يمكن أن تزرع وتوقف الزرع فيها تحت تأثير «مكرمة» النفط؛ مكرمة إلهية، أهديت إليهم من باطن الأرض، ودعم خارجي من إمبراطورية تسعى لحكم العالم بجيوشها الممتدة على مدى «الأقاليم السبعة».

أنتج هذا الثلاثي: (النفط، المذهب، الهيمنة الإمبريالية)، مجتمعاً شديد البذاءة في الاستهلاك، شديد الاحتقار للعمل والإنتاج، شديد العداء للشعوب العربية وإرادتها، شديد الانضواء تحت الراية الغربية وتحت راية أعداء الأمة، شديد التقليد لدولة صهيونية اعتبرت فلسطين معطى إلهياً والدستور معطى إلهياً، فلا لزوم للدستور ولا للقوانين البشرية: ثلاثي سعى لتحويل كل البلاد العربية إلى صهيونية إسلامية تعتبر أن الدستور لا يصنعه البشر، بل هو معطى من الله، شريعة إلهية، وتعتبر إرادة الشعوب تدخلاً منها في ما لا يعنيها كشعوب؛ والأهم من ذلك، تعتبر الأمة أولوية على الدولة. وإذا أقامت دولة، فهي تقيمها باسم خلافة لم تكن موجودة يوماً في التاريخ؛ إلا في أذهان أصحابها.

منذ ظهور الإسلام كانت إمارة المؤمنين سلطة سياسية لا دينية: في البداية، منذ عصر النبي محمد؛ وعندما فقدت إمارة المؤمنين سلطتها السياسية، تحولت إلى خلافة. كانت رمزاً دينياً لسلطة مفقودة، سلطة تمارسها الدولة السلطانية لا الخلفاء. أوهام الإيديولوجيا الإلهية موجودة عند كل الأديان والمذاهب، والصهيونية بعض تجلياتها، والخلافة بعض تجلياتها؛ إيديولوجيا تحتقر الإنسان وإرادته وتعمل على إلغائهما. إيديولوجيا لم تكن ممكنة في انتشارها لولا التقاء المذهب والنفط والدعم الغربي. دعوتهم تؤدي إلى الانزواء عن الغرب، عن ثقافة الغرب لا عن سياسته. وما اتخذوا موقفاً ضد الغرب إلا عندما تخلى عنهم في سبيل مصالح أخرى. يستخدمون تكنولوجيا الغرب، خصوصا فيما يتعلق بالإعلام والميديا عن طريق شبكة الكومبيوتر، لكنهم شديدو العداء لعلم الغرب الذي لا ينتجه إلا مجتمع متقدم منخرط في الثقافة العالمية التي هي ثقافة الغرب. ثقافة الغرب شيء وسياساته الإمبريالية شيء آخر. ثقافة الغرب التي استقبلها العرب والمسلمون برحابة صدر في القرن الـ 19، أقفلوا الباب أمامها في القرن العشرين تحت تأثير هذا الثلاثي النفطي أساساً.

ألهمتنا تونس مرة أخرى. الصراع فيها داخل الدولة لا على الدولة. الصراع في الدولة إقرار بالدولة وبالسياسة وبأن هذا الفريق أو ذاك يمكن أن يكون موجوداً، ويكون وجوده فاعلاً في السلطة أو خارجها، في الموالاة للسلطة أو في معارضتها. وبالتالي فإن الصراع هو على السلطة لا على الدولة. صراع على السلطة في إطار الدولة. وهذا رد قوي على جماعة الإخوان المسلمين، وتنظيمهم العالمي، في مصر وغيرها؛ رد فعل مبني على أن للدولة أولوية على الأمة. لم ينته الإخوان المسلمون، وهم في السلطة في مصر وخارجها، إلا إلى الأمة. أهملوا شأن الدولة. أُخرجوا من السلطة في الميدان؛ واستمرت أعمال العنف ضد الدولة. بعدها اتعظ الإخوان المسلمون في تونس ورأوا سلامتهم وسلامة تونس في حصر الصراع بالسلطة وعلى السلطة، لا بالدولة وعلى الدولة. أعطوا الدولة أولوية على الأمة؛ فكان انتقال السلطة بواسطة الانتخابات الديموقراطية لا بوسائل العنف. فهم الشعب التونسي ما أراد مما لم يكن متاحاً أمام الشعب المصري الذي منع من الفهم وتحقيق الإرادة.

يبدو أن في تونس فهماً لدى عامة الشعب ونخبه، للسياسة، وأن الثورة فعل تأسيس تتلوه الثورة المضادة والدستور والقوانين الجديدة، أي الثورة المضادة. وفهم الشعب التونسي أن مواجهة الثورة المضادة تكون بالسياسة، وما تعنيه من حوار ونقاش حول الحاضر والمستقبل؛ وفهم أيضاً أن هذه المواجهة لا تكون بالعنف، وأن العنف يقود إلى انتصار الثورة المضادة، وإلى خسران الشعب لما اكتسبه من حريات.

كان الإقبال على الانتخابات في تونس كثيفاً نسبياً، 60%. عزف بعض الشباب المحبطين، لكن متوسطي العمر والمستوى أدركوا أنهم يمكن أن يدلوا بأصواتهم في الصندوق وأن الصندوق يمكن أن يكون أداة تغيير وأنه يمكن أن يغيّر الوقائع بغير وسائل العنف. فكان تداول السلطة سلمياً وبرضى الطرفين. كل ذلك بعد أن جمعت القوى السياسية من غير الإخوان صفوفها وحققت أكثرية اعترف بها الجميع بمن في ذلك الإخوان الذين هنأوا المنتصرين. تجربة لم يكن بورقيبة حاضراً فيها بل نتائج «ثورة 30 يونيو» المصرية؛ ولو كان حاضراً لكان أدى إلى سادات آخر يستبد ويتلاعب مع الإخوان المسلمين؛ يستبد ويتقرّب من إسرائيل؛ وهذه رفضت كل عروض العرب للاستسلام من اتفاق أوسلو إلى المبادرة العربية عام 2002. لم يكن بورقيبة على حق لأن أمور الحرب والسلام تقررها إسرائيل؛ يقررها الطرف الأقوى. وإسرائيل قررت منذ البداية إلغاء الوجود العربي في فلسطين.

تعود السياسة إلى تونس بفضل الشعب التونسي الذي لم ولن يكون بحاجة الى من يربيه بل بحاجة إلى من يقوده بالتعبير عنه لا بتمثيله أبوياً. تقاوم الأمة العربية إسرائيل لأن هذه مشروع حرب دائمة، وإن متقطعة، ولأنها هي التي تجعل السلام مستحيلاً. كان بورقيبة مشروع سادات آخر ولم يكن نقيض عبد الناصر. لا ننسى أن عبد الناصر بدأ عهده بالسعي للسلام، وعندما يئس الغرب منه بسبب مشروعه الداخلي شن الحروب عليه.

برهنت الانتخابات التونسية، وهي ثورة ثانية، أن إرادة العرب هي في السياسة وفي رفض شعارات الإخوان المسلمين وزملائهم السلفيين والوهابيين. لا يمانع الشعب أن يبقى هؤلاء في السلطة كشركاء، في المعارضة أو ربما الموالاة، لكن من دون أن يحكموا ويحققوا شعاراتهم. استأثر الإخوان بالسلطة في مصر، وأرادوا إخضاع الدولة لشيء خارجها. جاء إقصاؤهم نتيجة أفعالهم. برهنت الانتخابات التونسية أن أقصى ما يمكن أن يطمح إليه الإخوان هو أن يكونوا طرفاً سياسياً، وأن يصيروا حزباً إسلامياً ديموقراطياً، مع أولوية الديموقراطية. انهزم الإخوان بالديموقراطية. ولا بد من أن تكون للتجربة التونسية آثار في مصر حين يرضى إخوانها بالنزول عند إرادة الشعب. وهنا لم يفت الأوان بعد. والأمر يتوقف على أن يغيّر إخوان مصر توجههم من العنف إلى السياسة، من الصراع على الدولة إلى الصراع في الدولة، من الاستئثار بالسلطة إلى سلطة تحتوي الجميع.