لم يعد المشهد في لبنان مجرد خلاف سياسي حول قرار حكومي، بل تحوّل إلى مواجهة مفتوحة تحمل في طياتها رائحة الانفجار الكبير. فقرار مجلس الوزراء بحصر السلاح بيد الدولة كان كفيلاً بكشف عمق الانقسام، ليفجّر ردود فعل نارية من جانب حزب الله، الذي تجاوز كل الخطوط الحمر، وعاد إلى قاموس التخوين واتهام الخصوم بالعمالة، مؤكداً تمسكه بترسانته كجزء من «معادلة الردع».
وما إن هدأت العاصفة الكلامية، حتى وقع الانفجار الملتبس داخل أحد الأنفاق في الجنوب، مودياً بحياة ستة شهداء من الجيش اللبناني، في حادثة غامضة التوقيت والدلالات، أشعلت الغضب الشعبي، وأعطت الأزمة أبعاداً أكثر خطورة. تزامن ذلك مع تدخل إيراني مباشر في الخطاب والرسائل، في مشهد يوحي بأن النزاع حول السلاح لم يعد شأناً داخلياً صرفاً، بل ورقة في لعبة إقليمية معقدة، أكدت من جديد أن قرار السلاح ليس لبنانياً بل هو إيرانياً بوضوح، ودون لبس أو إبهام.
هذا التدخل يضع الحكومة اللبنانية أمام مأزق مضاعف؛ فمن جهة، هي مطالبة أمام المجتمع الدولي بخطوات عملية تثبت قدرتها على فرض سيادة الدولة، ومن جهة أخرى تواجه ضغطاً داخلياً – إقليمياً يمنع أي مساس بدور الحزب. النتيجة: أزمة سيادة مشروطة بموازين قوى خارجية بالدرجة الأولى. بعدما أوحى الكلام الإيراني، المكرَّر من مراجع رفيعة في السلطة، أن سلاح الحزب في لبنان هو ورقة في الملف التفاوض مع واشنطن عندما يحين موعد الجلوس على طاولة المفاوضات حسب التوقيت الأميركي.
ولكن قراءة هادئة وموضوعية لهذه التطورات المتسارعة، تفتح آفاقاً أكثر إيجابية في معالجة قضية مصيرية على مستوى كبير من الأهمية والخطورة في آن واحد.
الواقع أن سلاح الحزب لم يعد هدفاً بحد ذاته وحسب، بقدر ما أصبح في الوقت نفسه خياراً لا بد منه لإخراج البلد من بوتقة الحصار الإقتصادي والمالي، والذي يحول دون معالجة الأزمات المتراكمة، وتداعياتها الإجتماعية والمعيشية، وفي مقدمتها إعادة إعمار ما دمرته الحرب، وبناء القرى المدمرة في الجنوب خاصة، وتأمين العودة الكريمة لمليون مهجَّر إلى بيوتهم في بيروت والمناطق الجنوبية والبقاعية.
وإلى جانب إشكالية إزدواجية القرار السيادي في مسألة الحرب والسلم، ثمة خبراء في التسليح يعتبرون أن إنعدام التوازن العسكري، خاصة في الأسلحة الإستراتيجية، بين الحزب والعدو الإسرائيلي أفقد سلاح الأول الكثير من فعاليته، يُضاف إلى كل ذلك التفوُّق التكنولوجي للعدو، والذي تجلّى في عمليات البيجر واللاسلكي وإغتيالات الصف الأول من القيادات السياسية والعسكرية في الأيام الأولى لحرب العام الماضي.
وفي السياق نفسه، يمكن القول أن تنفيذ قرار حصر السلاح بالدولة اللبنانية من شأنه أن ينزع الذرائع من العدو الإسرائيلي في شن غاراته وإعتداءاته شبه اليومية على القرى الآمنة وعلى مختلف المناطق الجنوبية والبقاعية بحجة ضرب البنية العسكرية للحزب، وإستهداف مخازن أسلحة وذخائر ومعدات عسكرية.
ومن المفترض أن يفتح القرار الحكومي الكبير الأبواب أمام الإنسحابات الإسرائيلية من التلال الخمس أولاً، ولو عبر خطوات متزامنة مع تسليم سلاح الحزب للدولة، الأمر الذي من شأنه أن يرفع كابوس الإحتلال وإعتداءاته عن القرى الأمامية، وتصبح عودة الأهالي إلى قراهم خطوة طبيعية.
أما التعثُّر في تنفيذ القرار السيادي فيعني بقاء الوضع المتأزم في المراوحة القاتلة، وإمعان العدو الإسرائيلي في إعتداءاته اليومية، وسقوط المزيد من الشهداء من كوادر الحزب وقياداته، والتمديد لحالة العجز الإقتصادي وتعطيل عملية إعادة الإعمار.
أما حادثة النفق فلا يجوز إعتبارها مجرد تفصيل أمني. فقد تكون رسالة تحذير، أو شرارة لاشتباك أكبر، أو حتى محاولة لخلط الأوراق ومنع تطبيق القرار الحكومي. استشهاد ستة من خيرة جنود الجيش منح الأزمة بُعداً عاطفياً وشعبياً قد يصعب احتواؤه إذا ما تكررت مثل هذه الحوادث. الخطاب التصعيدي، مدعوماً بالسلاح، يرفع منسوب التوتر ويقرّب البلاد من مواجهة لا يريدها أحد، لكن الجميع يتهيأ لها.
السلطة أمام طريقين: إما المضي في تنفيذ القرار ضمن جدول زمني صارم مهما كانت الكلفة، أو التراجع إلى تسوية مؤقتة تجنب البلاد الانفجار لكنها تؤجل الأزمة. كِلَا الخيارين محفوف بالمخاطر، لكن التأجيل في دولة مأزومة سياسياً واقتصادياً قد يكون أكثر خطورة من المواجهة نفسها.
التوتر السياسي والأمني المتصاعد، مع التدخلات الإيرانية والضغوطات الأميركية، تنذر بأن الأشهر المقبلة ستكون حاسمة في تحديد ملامح ومصيرالجمهورية: فإما أن تستعيد سيادتها، أو تفقد ما تبقَّى منها على مذبح الصراع الإقليمي.