IMLebanon

شهران على اغتيال صالح

 

بعد أيام قليلة، يمضي شهران على اغتيال الحوثيين (أنصار الله) لعلي عبدالله صالح، رئيس الجمهورية العربية اليمنية ثم الجمهورية اليمنية من منتصف 1978 إلى مطلع 2012، لا يزال السؤال المحيّر يطرح نفسه. كيف يمكن لرجل حذر مثل علي عبدالله صالح استطاع البقاء في السلطة كل هذه السنوات أن يقع في الفخ الذي نصبه له عبد الملك بدر الدين الحوثي، الذي يعتقد أن لديه حساباً يريد تصفيته مع ذلك الذي حكم اليمن طوال ما يزيد على ثلاثة وثلاثين عاماً.

 

من الصعب العثور على جواب عن مثل هذا السؤال، حتى لشخص عرف علي عبدالله صالح منذ العام 1986، حين كان يرفض إجراء حوار صحافي مباشر، إلى أن صار بعد العام 1995 يريد أن يكون صاحب الأسئلة والأجوبة في المقابلة الصحافية.

 

ربما ساهم تبسيط الأمور في فهم لماذا استطاع الحوثيون محاصرة علي عبدالله صالح في بيته وقتله بطريقة وحشية بذريعة أنه وراء مقتل حسين بدر الدين الحوثي، شقيق عبد الملك الحوثي، في العام 2004.

 

على الرغم من امتلاكه ذكاءً فطرياً من النوع يجعل منه سياسياً استثنائياً، يظل علي عبدالله صالح انساناً بسيطاً ذا ثقافة متواضعة. المرجح أنه كان يعتقد أن في استطاعته الاعتماد على الذين دعمهم في الماضي من جهة وعلى قدرته على تجاوز كل أنواع الأزمات من جهة أخرى.

 

كان يظن أن لديه قاعدة شعبية واسعة وأن القبائل المقيمة في محيط صنعاء والتي تسمى «قبائل الطوق» لا يمكن أن تتخلى عنه، خصوصاً أنه قدم لها الكثير طوال سنوات حكمه الطويل. لم يدرك أن هذه القبائل اختارت السير مع الحوثيين منذ فترة طويلة وأن زعماءها كانوا يقولون في مجالسهم الخاصة: نخزن مع الرئيس (أي نمضغ القات معه) ونقاتل مع الحوثي.

 

جاء عشرات الآلاف من رجال القبائل إلى ميدان السبعين في صنعاء في آب (أغسطس) الماضي للمشاركة في احتفال ضخم في الذكرى الـ 35 لتأسيس «المؤتمر الشعبي العام»، وهو الحزب الذي أسسه علي عبدالله صالح في العام 1982 وكان من بين الأدوات التي استخدمها للإمساك بالسلطة وتذويب الأحزاب الصغيرة واحتوائها. بعد ساعات قليلة من انتهاء الاحتفال، عاد رجال القبائل من حيث أتوا. تلقى علي عبدالله صالح في ذلك اليوم سلسلة من التحذيرات، من بينها منعه من إلقاء كلمة طويلة في الاحتفال. اقتصرت كلمته على نص قصير أُخضع مسبقاً لموافقة الحوثيين الذين نشروا قناصين في مواقع تشرف على المنصة التي كان يجلس فيها الرئيس السابق.

 

كان علي عبدالله صالح يعرف الحقيقة لكنه أصر على المكابرة. كان يعرف تماماً أن «قبائل الطوق» صارت في مكان آخر، لكنه لم يصدق لحظة أن هذه القبائل لن تهب، في اللحظة الأخيرة، لنجدته عندما تصبح حياته في خطر. ذهب ضحية المكابرة والايمان والثقة بقبائل كان يعرف تماماً أنه لا يمكن الوثوق بها. هل من جاء واشترى هذه القبائل في مرحلة كان يمكن أن تدعم علي عبدالله صالح في المواجهة الأخيرة مع الحوثيين؟

 

قبل ذلك، لم تعد هناك من قوات عسكرية بإمرة علي عبدالله صالح وذلك منذ اليوم الذي سلم فيه الرئاسة إلى نائبه عبد ربه منصور في شباط (فبراير) 2012. من بقي موالياً له من كبار الضباط في القوات المسلحة، قتل في قصف الصالة الكبرى خلال عزاء لآل الرويشان في صنعاء يوم الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) 2016.

 

كان يتظاهر بالقوة لكنه لم يكن يملك شيئاً منها على أرض الواقع. لم يبق معه سوى عدد قليل من المخلصين قاتلوا بشجاعة في الأيام الثلاثة التي انتهت باقتحام بيته وتنفيذ حكم أصدره عبد الملك الحوثي بحقه.

 

ما يدل على أن علي عبدالله صالح لم يكن يتوقع في أي وقت أن يدخل «أنصار الله» بيته هو أن معظم الوثائق السرية التي كانت تعود إليه بقيت سليمة في المنزل. الأكيد أن الحوثيين استولوا عليها ونقلوها إلى حيث يجب نقلها.

 

ما الذي يمكن قوله بعد شهرين تقريباً من اغتيال علي عبدالله صالح؟ لعل أول ما يمكن الإشارة إليه هو الافتقاد إلى قيادات يمنية استطاعت أن ترث زعامته. كان علي عبدالله صالح الشخص القادر على الحوار مع الجميع وعلى تقديم كل التنازلات المطلوبة متى تدعو الحاجة إلى ذلك. كان رمزاً للقدرة على الأخذ والعطاء في اليمن. لم يعد يوجد في البلد من يريد التعاطي مع الآخر. لا يوجد في الواقع أي مشروع سياسي يمكن أن يكون موضع اتفاق بين «شرعية»، تبدو في حال ضياع أكثر من أي وقت، وبين حوثيين تحولوا إلى أداة إيرانية لا أكثر. ما الذي تريده إيران في اليمن حالياً؟ تريد تحويل الشمال إلى ما يشبه قطاع غزة الذي تديره «حماس» منذ منتصف العام 2007، أي منذ ما يزيد على سبع سنوات ونصف سنة.

 

خسر علي عبدالله صالح معركته في اليوم الذي قرر فيه البقاء في صنعاء بعد وضع الحوثيين يدهم عليها في الواحد والعشرين من أيلول (سبتمبر) 2014. بدأ العد العكسي للتخلص منه في ذلك اليوم. كانت المسألة مسألة وقت لا أكثر. جاء التخلص منه ليؤكد أن مرحلة الحوار في اليمن صارت من الماضي. كانت الشراكة بينه وبين الحوثيين، وإن كانت شكلية ومصطنعة ولا منطق لها، توحي بأن باب الحوار لم يغلق كلياً.

 

بقتلهم علي عبدالله صالح، لم يغلق «أنصار الله» باب الحوار نهائياً فحسب، بل وجهوا في الوقت ذاته رسالتين. الأولى أن لديهم رغبة في إقامة إمارة خاصة بهم في مناطق شمالية يمنية على تماس مع السعودية. ليس كلام عبد الملك الحوثي عن «شرعية ثورية» كلاماً عابراً. هناك إصرار لدى الحوثيين على إلغاء الجمهورية اليمنية التي تأسست في العام 1962 والعودة إلى الإمامة. بالنسبة إلى عبد الملك الحوثي، ألغت «ثورة الواحد والعشرين من سبتمبر 2014» «ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962».

 

أما الرسالة الأخرى التي وجهها الحوثيون، فهي تتمثل في أنهم لن يخرجوا من صنعاء إلا بالقوة. هل من يستطيع إلحاق هزيمة عسكرية بهم تعيدهم إلى كهوف صعده التي انطلقوا منها في اتجاه المحافظات الأخرى وبلغوا عدن والمخا في مرحلة معينة؟

 

إذا كان من درس يمكن تعلمه من اغتيال علي عبدالله صالح، فهذا الدرس هو أن لا أمان للحوثيين وأنهم وحدهم الذين يمتلكون مشروعاً سياسياً في اليمن تقف خلفه إيران. إنه مشروع متخلف على كل صعيد إلى أبعد حدود ولا أفق له في المدى البعيد، لكنه مشروع قائم على تحويل اليمن شوكة في خاصرة دول الخليج العربي.

 

كذلك، يتبين الآن أنه لم يكن من بديل لـ«عاصفة الحزم» التي شنها التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية في آذار (مارس) 2015. لم تكن هذه الحملة العسكرية، بغض النظر عن كل ما يقال عنها، سوى رد فعل في سياق الدفاع عن النفس في وجه المشروع الإيراني في اليمن الذي كان علي عبدالله صالح من ضحاياه!