IMLebanon

عامان على «داعش».. ماذا بعد؟

عمر «داعش» عامان فقط؟ سنتان بقامة دهر. لا تقاس الأعمار بالسنوات أحياناً، بل بالآثار. لـ«داعش» أزمنة خاصة، وارتكابات فارقة، تطأ الكرة الأرضية بتوحشها العقدي. تنتج خوفاً وتوزع رعباً. ترمي إلى تطهير العالم من الكفر والدنس. تعيد تأسيس الماضي مرة أخرى. أمر غير مسبوق بالمرة. يرتكب الفظائع بتوحش لا يصدّق. يبتكر من فنون القتل ما يدل على عبقرية السفك وآلياته. ينشئ جيلاً جديداً يتربى على الحلال القليل والحرام الكثير. يفتتح فصلاً خاصاً في التاريخ، بثوابت العقاب ومرجعية الأوائل.

ليس ظاهرة عابرة. منذ ما قبل إعلان الدولة، كان دولة قيد الإنجاز، وتنظيماً، ببعد عالمي، بطموح إقامة نظام دولي جديد، يديره «الخليفة»، من «مركز الخلافة». السند الديني متوفر والمرجعية الدينية مؤمّنة، والسند التاريخي يقدم «لدولة الخلافة» حجة دامغة: من قبل، هزم المجاهدون الأفغان والتنظيم الإسلامي الدولي الاتحاد السوفياتي. سقط القطب الدولي في معارك ميدانية. تحوّلت أفغانستان إلى مقبرة للدبابات ومصيدة للطائرات. مهمة التنظيم راهناً، منازلة القطب الثاني، هنا وأينما كان. يتمنى التنظيم استدعاء الأميركيين ومن معهم إلى ساحة المنازلة الميدانية في العراق والشام. يقلدون بذلك عهد الفتوحات الإسلامية الأولى، عندما هزمت دولة الخلافة الإمبراطورية الفارسية، والامبراطورية البيزنطية، قطبي النظام الدولي آنذاك.

منذ عامين، يوماً بيوم، اجتاح البغدادي مدينة الموصل، ثاني أكبر مدن العراق. بعد ثلاثة أسابيع نصّب البغدادي نفسه خليفة المسلمين. بدأ زمن جديد لا يشبه الأزمنة السائرة اليوم، ولا يشبه أزمنة سابقة. بعده، تغيَّر العالم، كل العالم، بلا استثناء. «داعش» في كل مكان. يوقع بالتوحش حضوره، أذرعه منتشرة، يضرب ويصيب ويغرق العالم في الحيرة… لا مثيل لـ«داعش»، والعالم يتعثر في مواجهته.

لم يعد السؤال، من أوجد «داعش»؟ يطيب للمنحازين أن يتهموا دولاً إسلامية سلفية بتأمين الأرضية العقدية والسيولة المالية لـ «القاعدة» من قبل، ولوريثها «داعش» من بعد. قد يكون ذلك صحيحاً، ولكنه لم يعد مفيداً. فـ «داعش» باتت خطراً يومياً على من يفترض انه احتضنها. السعودية تتعرض لخطر «داعش». آخر الإعدامات طالت 47 «داعشياً». يطيب لآخرين تفسير هذه الظاهرة المأساوية بحرب جورج بوش على العراق. قد يكون ذلك واضحاً وضوح الشمس، فالزرقاوي انتشر بعد تدمير العراق. لكن ذلك لم يعد مفيداً. «داعش» يضرب في الولايات المتحدة ويصيب، بالأمس ضرب في اورلاندو. من قبل، ذاقت أميركا كارثة 11 أيلول، من مرضعة «داعش»، بتوقيع «القاعدة». ويطيب للبعض أن يعزو نمو «داعش» إلى التشيع السياسي في العراق. وبالفعل، لقد شهدت المراسلات بين الزرقاوي وأسامة بن لادن ومن بعد مع أيمن الظواهري، خلافاً حول قتال «الرافضة»، لإثارة الفتنة وتأليب السنّة على السلطة ومن معها. وهذا يفسر استقبال الكثيرين من أهل الموصل لجحافل «داعش»، انتقاماً من جيش اتهم بالانحياز للشيعة.

كل ذلك لم يعد مفيداً. دولة «داعش» ضد كل من لا يشبهها، حذو النعل بالنعل. ضد كل من لا يمتثل لأوامرها ولو كانت خرافية ومجنونة. السؤال الجارح: لماذا تأخر الجميع عن قتال «داعش» جدياً؟

الخطيئة، في الحسابات الخصوصية، وفي الانقسام المذهبي الذي يشق الإقليم إلى فسطاطين لا يلتقيان: فسطاط السنّة وفسطاط الشيعة، والحروب الدائرة والمزدهرة بين الفسطاطين، لا توفر أرضية مشتركة وجبهة موحدة. لكل فسطاط حساباته. لا تقبل البيئة السنية التضحية بـ «داعش» بلا أثمان تترتب على الفريق الشيعي. يشهد الإعلام العربي على هذا الانقسام، أو على هذه الهاوية. «داعش» ضد «خوارج السنّة» وضد «روافض الشيعة»، ومع ذلك، يتهم «الحشد الشعبي» بتشيعه، من قبل البيئة السنية، المتهمة بدورها باحتضان الحالة الداعشية… سوريالية باهظة، والسفك لا يتوقف.

يعيش «داعش» على خلافات المحاور. الولايات المتحدة ضد «داعش»، ولكن حساباتها مختلفة. لا ترغب بحرب تورطها. تفضل القصف على العمليات البرية. نجحت مع الأكراد، ولم تنجح بعد مع السلطة في العراق. تطوّر بالغ إذا نجح النظام في الفلوجة، على أن لا تكون كلفة النجاح تنديداً بالارتكابات المفترضة ضد المدنيين، أو الارتكابات الحقيقية أيضاً. الحكم في هذه القضية ليس سهلا. الاتهامات متبادلة. وهذا ما يجعل من «داعش» خطراً دائماً، يغتذي من الانقسام.

الدول المشاركة في الحروب السورية لها حساباتها كذلك. لا ترغب تركيا بانتصار الأكراد على «داعش» بدعم أميركي. أردوغان مستعد لقتال الفصائل الكردية «حتى يوم القيامة». النظام في سوريا ليس محل إحاطة أو إجماع. إيران، حل ومشكلة معاً. السعودية متهمة بالتواطؤ. إسقاط بشار الأسد هدفها الأول. روسيا، لم تحقق بعد غير تفوّق بالقصف كأن المعركة لم تبدأ بعد.

ماذا بعد؟

عامان على «داعش» كأنهما دهر. ليس في الأفق ما يشير إلى نهاية «داعش». قد تتبعثر أراضي «الدولة». قد تخسر جبهات، ولكن التنظيم لا ينتهي. مقتلة اورلاندو دليل. مقتلة باريس مثال. صحراء سيناء جهاد. وهلمّ جراً من الدماء.

ليس في الأفق من هو مضاد لـ «داعش». سيادة الفكر الديني المزدوج، سنّة وشيعة، لا يوفر أرضية مشتركة، لنشوء جيل جديد، يكون موحِّدا بالوطن والمواطنة وملتزماً بالإنسان أولاً، قبل وفوق إيماناته كلها.

عامان من عمر «داعش»؟ هل نحن في البداية؟

ما أبأس هذه الذكرى!