يقسو الرجل على نفسه كثيرا، حين يحمل ثلاثة هموم في قلبه، فتشغله ليله ونهاره، وينشغل بها. فبالكاد يستطيع المرء، أن يحمل همّا عاديا واحدا، فكيف به وهو يحمل ثلاثة أثقال، في زمن ثقيل، هو خارج التوازنات جميعا، ولا يعرف متى يختلّ التوازن ولا كيف، ولا أين.
قدر وليد جنبلاط، أن يكون هذا النوع من الرجال. يحمل ثلاثة هموم بدل الهمّ الواحد. ويسير بها، لا في زمان عادي، وإنما في الزمن الصعب المليء بالضوضاء. وهل هناك زمن أصعب على وليد جنبلاط، من هذا الزمن. الرجل الذي أورثه قدره، دون خيار منه، بل دون تدخّل منه، أمة الموحدين الدروز، في الزمن الصعب، في ثلاثة بلدان متحايذة: لبنان وسوريا وفلسطين. حيث ثلاثة رجال، وثلاثة أنظمة، وثلاثة حروب، تشنّ في وقت واحد. فلا نعرف عن الحرب إلّا وهي تندلع في لبنان، إلّا وهي تندلع في سوريا، إلّا وهي تندلع في الجولان. فما بالنا، إذا كان وليد جنبلاط، وسط ثلاثة حبال تشدّ عليه في وقت واحد: حبل إيران، وحبل إسرائيل، وحبل سوريا. كيف نستطيع أن نتصوّر ليل هذا الرجل ونهاره؟ كيف نستطيع أن نتصوّر مقدار عصبه في مواجهة الأنواء والعواصف والنيران، تأتيه من هذه الجهات الثلاث في وقت واحد؟!
كيف يقف وليد جنبلاط، الرجل المعجزة، وسط فوضى الساحات، وعلى منكبيه ثلاث أمم من أهله: واحدة في لبنان، وواحدة في الجولان، وواحدة في حوران. لهذا نراه دائم الحيرة، دائم التوهان، يشتغل مثل الرادار، فلا يهدأ له بال، إلّا وهو يلتقط الأحداث الجسام عن بُعد، ويتهيّأ لها. يتلو في عمق أعماقه: «نون. والقلم وما يسطرون»، ثم ينصرف لمتابعة التفاصيل اليومية بكل شجونها: هنا وهناك وهنالك.
أبو تيمور الذي خلع عن كتفيه عباءة كمال جنبلاط وأعبائها، وأهداها لتيمور بك، في تقلّده الزعامة والرئاسة والقيادة، ووشح عنقه بالكوفية الفلسطينية وبياقة القدس الشريف والمسجد الأقصى، تراه يذهب اليوم رجلا فردا، لملاقاة شعبه، في دمشق، وسط أعظم المخاطر، وأقسى التحدّيات، وهو يشهد، وهو يشهد، وهو يشهد.
ماذا يقول للسيد الرئيس أحمد الشرع اليوم، (أبو محمد الجولاني سابقا)؟ ماذا يطلب منه؟ ماذا يحمل له؟
أزعم أنه يضع تاريخه وتاريخ أمته الثلاث قدّامه، ويقول له: هذا هو قدر الموحّدين، أن يكونوا مثالا عن العروبة المبرحة، عن الإسلام المبرح، عن الأمة التي برحها الشوق، وبرحها العذاب، وبرحها الطغاة، حتى شهدوا على جثثها في النهر العظيم.
كيف يكون لأبي تيمور أن يهدأ، وهو يخشى. ما أصعب الزمن الذي يكون على مثل هذه الصورة: عدو يلعب بالأمة، وهي في أقسى عريها، تضربها الريح وتشتدّ عليها النيران، تواجه قدرها وحدها، وقد بالغ الظالمون بها.
ما أقسى هذه الحرب المزلزلة. كيف ينام وليد جنبلاط، وعينه مفتحة، في ثلاث جبهات؟ كيف يوزع قلبه؟ كيف يوزع عقله؟ كيف يوزع طاقته؟ تستغرقه، أمته المثلثة، حتى كاد أن يصير التثليث عنده، قاعدة لحسابات الأمة كلها.
وجع وليد جنبلاط مختلف عن الرهط كلهم، في لبنان وفلسطين وسوريا.
لمن سيشكو همّه، وهو لا يعرف متى يحين الموعد، دفع الضريبة باكرا، وهو يقدّر ما يحمل: الإرث الصعب، والدور الأصعب، والزمن الذي يتحوّل. يشق الصوت وهو ينادي على شعب شاقه، أن يراه يساق إلى القدر الأشأم. يطلّ عليه نتنياهو من أعلى الجولان، وينظره…
إنتظر وليد جنبلاط على ضفة النهر زهاء خمسين عاما، حتى جاء النهر بحمولته. فوقف يسأل النهر: ماذا بعد؟!
وليد جنبلاط، يذهب، حين يذهب، ليقول، فقط ليقول أوجاعه… وهو لا يعرف ماذا يسمع.. وماذا سيسمع.. ويظل يسمع…
ما أصعب الوقت حين يحرج السائل عنه، وليد جنبلاط يسأل الوقت حين يسأل.
بلاد إتسعت للنكبات كلها، تعاورتها المكائد، تعاورتها الإمبراطوريات، تعاورها الطغاة والطغيان والعدوان. جميع أيادي المجرمين، اجتمعت في برهة هي الأقسى، لو كان فيها كمال جنبلاط نفسه، لكان يخشى.
أصعب من ذلك كله، على قلب وليد جنبلاط، هو أنه رجل أمة الجبل. ثلاثة أجبل في صدره. وكل جبل هو بزنة وطن بكامله. فماذا يقول لمن حوله؟ ماذا يقول للقدر الذي ساقه إلى قدره؟!
وليد جنبلاط، رجل المهام الصعبة: ماذا عن لبنان وماذا عن الجولان، وماذا عن حوران.. تصير جميع هذه الأجبل أوطانا، فكيف تراه يوطّن نفسه؟ كيف تراه يتوطّن؟
برهة رجل المهام الصعبة، هي الأقسى، حين يرى عدوه، يطلّ من أعلى قمة في جبل الشيخ، ويسرح نظره في الأمداء كلها: فلسطين ولبنان وسوريا. ما أقسى هذا المشهد على قلبنا. فكيف يقع على قلبه. وكيف هو يتحمّل؟!
وليد جنبلاط يرزأ اليوم تحت كلكله: طوائف شتى، ومحاور شتى، وجبال وأوطان تحت عيون العدو، تنتظر دورها. فماذا يقول لمن يراه؟ ماذا يقول لمن يحادث.. أو يحدثه.. أو يحادثه…؟
رجل المهام الصعبة لا يتعب. حمل الأرزاء كلها حملا ثقيلا. إعتاد أن يكون هذا دوره. لا الريح تثنيه ولا الزمن. يقدم الأوطان على نفسه، لأنه الرجل، الأمة، الوطن!
* أستاذ في الجامعة اللبنانية