IMLebanon

جنبلاط من الورقة البيضاء إلى التنحّي

ليس معروفاً تعلّق وليد جنبلاط، ككمال جنبلاط، بالأديان القديمة والروحانيات والصوفية التي كتب عنها الأب الكثير. إلا أن الموقف المقتضب بأسطره القليلة بإعلان استقالته من حزب هو ثاني رئيس له منذ تأسيسه قبل 74 عاماً، أقرب ما يطابق العبارة المأثورة لأحد أكبر شيوخ الصوفية، النفري، بقوله: «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»

الأسطر القليلة في استقالة وليد جنبلاط من الحزب التقدمي الاشتراكي، الخميس الفائت، أخفت ما لم يقله بعد إلى الآن، أو قال بعضه. بيد أن «الرؤية» التي يكتمها، وحاول اختصارها في «العبارة»، حملته على خطوة نادراً ما أقدم مؤسسون تاريخيون أو قادة تاريخيون لأحزاب لبنانية تاريخية ارتبطت بطوائفها وأضحت قائدتها كلها أو قائدة جزء منها كالأحزاب المسيحية القديمة والمتواصلة، على خطوة كالتي فعلها الزعيم الدرزي.

في الغالب، وحده الموت يحمل هؤلاء على التنحي. الحالات القليلة المعروفة بالاعتزال على الحياة استقالة الرئيس كميل شمعون من رئاسة حزب الوطنيين الأحرار عام 1985 كي يخلفه نجله داني، واستقالة الرئيس أمين الجميّل من رئاسة حزب الكتائب عام 2015 كي يخلفه نجله سامي. ثالثهما جنبلاط المستقيل من حزبه قبل يومين كي يخلفه نجله تيمور. الثابت في تقاليد الأحزاب المماثلة المرتبطة بالمؤسس والزعيم والقائد أنها تكتب له المنصب حتى الرمق الأخير.

 

حتى الأمس، يصح القول في جنبلاط إنه أكبر المعمّرين في منصبه في الأحزاب الرئيسية الحالية النافذة، المتشابهة المواصفات والالتصاق بالطائفة، رئيساً للحزب التقدمي الاشتراكي منذ 46 عاماً. بعده الرئيس نبيه برّي في رئاسة حركة أمل منذ 43 عاماً. بعده سمير جعجع على رأس القوات اللبنانية، ميليشيات ثم حزباً، منذ 37 عاماً. بعده الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله منذ 31 عاماً. أما الآباء الأوائل لهؤلاء جميعاً فغابوا أو غُيّبوا وهم في المنصب، وأضحوا في ضرائحهم مرجعية خلفائهم: كمال جنبلاط والرئيس بشير الجميّل اغتيالاً، بيار الجميّل وكميل شمعون وريمون إده تقدماً في السن، الإمام موسى الصدر تغييباً.
في 19 آذار 2017، في ذكرى كمال جنبلاط، ألبس الابن الحفيد عباءة البيت دونما أن تشمل الزعامة والدور اللذين ظلا في كنف وليد جنبلاط حتى الخميس الفائت. حدث ذلك قبلاً أن كان الابن كمال نائباً ووزيراً ورئيساً للحزب في كنف والدته، «الست نظيرة»، زعيمة البيت والطائفة والمنطقة حتى وفاتها عام 1951.
أما مغزى القرار المفاجئ باستقالة جنبلاط، وكان لمّح إليها للمرة الأولى عشية إعلانه في 2 آب 2009 على إثر الانتخابات النيابية العامة مغادرة قوى 14 آذار نهائياً دونما الانضواء في قوى 8 آذار، فيكمن في أنه لا يختم بالضرورة حقبة كي تبدأ أخرى.
بضع ملاحظات تحتّم استمهال الأحكام المسبقة:
أولها، مع أن جنبلاط أعلن تنحيه من رئاسة الحزب وعضوية مجلس القيادة ودعا إلى مؤتمر عام في 25 حزيران، إلا أن القرار النهائي في بت الاستقالة يعود إلى المؤتمر العام الذي يقرر قبولها ويدعو إلى انتخاب خلف له هو نجله تيمور، أو يرفضها ويطلب إلى رئيس الحزب المستقيل البقاء في منصبه. الموحى به إلى الآن أن استقالته نهائية، بعدما تحدث في المقابلة التلفزيونية الأخيرة عن رغبته في انتقال مسؤولياته إلى ابنه وطلبه الراحة والاستراحة. مع ذلك القرار النهائي في المؤتمر العام.رغم استقالته، الكلمة الأخيرة في تنحيه أو بقائه للمؤتمر العام للحزب

ثانيها، ليس تحديد موعد المؤتمر العام بعد شهر من الآن بلا دلالة. تالياً بين قرار التنحي وقرار المؤتمر العام، ثمة فاصل حرج يتحدث عنه الجميع تقريباً: ما قد يقع في الداخل حتى الوصول إلى هذا الموعد سواء حيال انتخاب رئيس للجمهورية أو التطورات الإقليمية من الخليج وصولاً إلى سوريا وتردداتها في لبنان. في ضوء الفترة الحرجة المتوقعة هذه، اختار جنبلاط أن يكون خارج المشهد اللبناني برمّته، فلا يسأل ولا يُسأل، ويضع حداً للتكهنات التي تدور من حول موقفه من الاستحقاقين الأخيرين الأكثر التصاقاً بلبنان في الوقت الحاضر: انتخاب الرئيس وعودة سوريا إلى المعادلتين العربية واللبنانية.

 

ثالثها، ليس خافياً أو مضمراً وجود فريق في حزب جنبلاط وكتلته باتوا يُسمَّون صقوراً، على رأسهم ابنه تيمور والنائبان مروان حمادة ووائل أبو فاعور، يرفضون الذهاب إلى انتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية. هو أيضاً موقف جنبلاط الأب قبلهم وأول مَن جهر به. بيد أن المشكلة تقيم في علاقته بالرئيس نبيه برّي المحسوب أنه أكثر مَن يمون عليه، والأقدر على استقطابه وجذبه إلى حيث لا يريد الذهاب إليه، وهو التصويت لمرشح الثنائي الشيعي. مَن يسمع جنبلاط معبّراً بالحجج التي يدلي بها عن رفضه انتخاب فرنجية يتيقن من أنه اتخذ قراراً نهائياً وقاطعاً. مع ذلك تظل علاقة التحالف الوطيدة غير المستغنى عنها مع برّي وزراً ثقيلاً لا يعفيه منه سوى إخراج نفسه من واجهة الحدث والأفرقاء الآخرين كلياً.
رابعها، الواضح كذلك أن جنبلاط الأب لا يرغب في أن يورث إلى جنبلاط الابن كمّاً من الخصومات والعداوات تنكّبها منذ عام 2005، لعل أكثرها وطأة عندما عادى سوريا ثم صالحها ثم عاداها، ولم يعد الآن يريد العودة إليها. إلا أنه لا يود أيضاً أن يورث خلفه هذا العبء المكلف. يوم لبس عباءة زعامة البيت والطائفة في نهار تشييع والده، لم يرث منه وزر عدائه مع الرئيس حافظ الأسد، ما حمله في أربعين اغتيالٍ اتهمت به سوريا على الاجتماع برئيسها في أيار 1977 كأن شيئاً لم يحدث قبله. ليس مستبعداً أو بعيد المنال استعادة هذه الواقعة ما يشبهها في ظروف مختلفة ما دامت المختارة تشعر باستمرار أنها معنية بالدروز العرب، لا سيما منهم دروز سوريا.
خامسها، وهذه تنطوي بدورها على أهمية بالغة عند جنبلاط، حينما سمع منه زواره قبل مدة يقول إن خلافه مع المسيحيين في ما مضى هو على الجبل ومرجعيته وتوازن القوى فيه، وليس خلافاً على وجودهم ودورهم في لبنان. يحتاج إليهم في الوجود والدور في لبنان في مرحلة تشعره بالقلق من فائض القوة الشيعي من جهة والزحف الشيعي إلى جبل لبنان من جهة أخرى. في صلب إصراره على التريث وعدم الانضواء في أي فريق، مع تمسكه بما يقبل به وما يرفضه كانتخاب فرنجية، أنه لا يستطيع الذهاب إلى انتخاب رئيس بلا المكوّنين المسيحيين الرئيسيين أو أحدهما على الأقل. مشاركة هذا الفريق الأساسي والمعني الأول بالمنصب هي التي تنشئ التوازن السياسي في الاستحقاق لئلا ينتهي المآل بالنموذج المعروف: أُكلت يوم أُكِل الثور الأبيض.

 

ليست الاستقالة، في أبسط تعريف آني، سوى الوجه الآخر للورقة البيضاء التي لوّح أخيراً باستخدامها في انتخاب رئيس الجمهورية.