رغم انقضاء ايام ثلاثة على فشل محاولة الاطاحة «بالنيو اسلامية « في تركيا، لا تزال ترددات العملية تحتل صدارة الاحداث الاقليمية والدولية، متجلية في مواقف لا تخلو من التشنج والوعيد المبطن، على خلفية الهجمة المضادة الاردوغانية، ضد مؤسسات الدولة التي طالما امل في تغيير وجهها العلماني، وسط غموض تام في المعطيات الكفيلة بكشف العقل المخطط والمدبر في الداخل وخارجه.
فاذا كانت العيون الاقليمية والدولية ترصد تطورات «ما بعد» المحاولة الانقلابية وسط تحذيرات متتالية من مبالغة «الاردوغانيين» في إجراءاتهم الردعية لمحاسبة مدبري التمرد والضالعين فيه، خصوصا بعد التلويح باعادة العمل بعقوبة الاعدام، فان القراءات المختلفة تركز بغالبها على حجم ووترددات «الهزة الانقلابية» على موقع أنقرة ودورها على الساحتين الدولية والاقليمية، ذلك أن ما قبل السبت لن يكون كما بعده، مع تكبيل الجيش الذي وصل إلى دوره الأطلسي بعد اعتقال قائد قاعدة انجرليك لاتهامه بالتورط في الانقلاب، وهي القاعدة التي تعيش تقنينا كهربائيا مقصودا، معطوفا على توجيه أصابع الاتهام نحو واشنطن الحاضنة لفتح الله غولن.
وعلى وقع تشعب القراءات لاسباب الانقلاب التركي ومفاعيله مستقبليا ، ترى مصادر دبلوماسية في بيروت، ان فشل الجيش في تأمين نجاح الانقلاب عزز من دور الشرطة التي تمكنت، وفي ظاهرة غريبة، من دفن المحاولة في مهدها بالتعاون مع جمهور «العدالة والتنمية»، حيث ستكون اولى ردود الفعل تسريع لحملة التطهير داخل المؤسسة العسكرية الحامية تاريخيا للعلمانية والتي بدأت منذ سنوات، وان بجرعات مخفضة، مستفيدا من ذلك لارساء قواعد امتن لحكم حزبه، بصورة الاسلام المنتح والمعتدل، والذي بالتأكيد سيفرض «عزلة» تركية عن اوضاع المنطقة الى حين الانتهاء من تسوية وتصفير الازمات داخل البيت التركي، رغم ان ذلك لن يعني بأي شكل من الاشكال تخليا عن المصالح الخارجية والتي اولى تجلياتها سوريا، ستكون جعل منطقة الشمال السوري مجالا حيويا تركيا لما لها من تاثير في الاستقرار التركي، علما ان الساعات الاولى للانقلاب شهدت في مدن حدودية مع سوريا عمليات تكسير واعتداء على متاجر ولاجئين سوريين من قبل مؤيدين للانقلاب. فان الدور التركي في سوريا وإن كان سيشهد بعض التراجع في الايام القليلة المقبلة، لكن لا بد ان يستعيد زخمه.
انقلاب يأتي فيما تركيا توسّع شبكة علاقاتها الدولية وقد تمكنت من اعادة المياه الى مجاريها بين أنقرة من جهة، وموسكو وتل أبيب وطهران من جهة أخرى، بحسب المصادر، التي تشير الى ان الأيام المقبلة ستكون كفيلة في كشف الجهات التي تقف خلف التمرد وما اذا كانت داخلية صرف أم استفادت من «قبّة باط» خارجية، علما ان اردوغان اتهم الداعية فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة، بتدبير الانقلاب، موضحة ان «جهات رسمية تركية ودولية كانت توافرت لديها معلومات عن تمرّد محتمل»، مذكرة في السياق بأن فرنسا كانت أعلنت اقفال سفارتها وقنصليتها في أنقرة لدواع أمنية.
كل ذلك سيطرح على الحكومة التركية استراتيجية جديدة في تعاطيها مع أزمات المنطقة، من موسكو، واشنطن، تل ابيب، القاهرة، طهران وحتى برلين، التي كانت لها ادوار بشكل او بآخر في تلك العملية على حدّ قول المصادر الديبلوماسية، وقد تظهر الايام القادمة بما لا يقبل الشك براغماتيتها لقطف ما تيسر بعدما بلغت الامور ما بلغته. اوروبا تريد انقرة في «بيت طاعتها» ضابط لايقاع «المارد المسلم المتفلت»، واشنطن لن تسمح بلعبة «سولو» مع موسكو تقلب التوازنات الهشة القائمة على الجبهات السورية، وموسكو تريد لتركيا دورها المعروف تاريخيا في حسابات «الدب الروسي» عامل توازن مع طهران، فيما حساب القاهرة يبقى في حدود الرعب من «الاخوان» أحفاد «الرفاه» وأبناء «العدالة».
بمقدار ما تساءل العالم عن دوافع انقلاب تركيا، يسأل بعد فشله عن حجم اجراءات رجب طيب اردوغان. قد يجزم الكثيرون ان الامور قد انتهت في تركيا لمصلحة «النفوذ الاردوغاني» على حساب الكيانات الاخرى كلها، سواء داخل حزبه او داخل مؤسسات الدولة، فيما قد يعتبر آخرون ان «الجمهورية الاتاتوركية» بعد الاحد هي غيرها ما قبله. قراءتان تصحان ولكن بينهما السؤال الابرز والاكثر دلالة، من هي الجهة الفعلية المحرضة على الانقلاب وما هي غاياتها؟ وما الذي دفعها عمليا الى ارتجال تحركها دون ان تكون حشدت له ما يكفي لينجح؟ عليه كيف سيكون الرد على الفشل وأين؟ خاصة اذا ما كانت الولايات المتحدة الاميركية صاحبة الخطة؟ هل يفعل الملف الكردي بعدم تخطي أردوغان الخطوط الحمر؟ ام تكتفي واشنطن بالرسالة اذا ما وصلت وفهمت؟ وهل بدأت عملية جديدة لرسم الأدوار على مستوى المنطقة؟
وتسأل المصادر نفسها هل محاولة الانقلاب هي التي نفذتها المجموعة العسكرية التي ردعت واستسلمت، أم الانقلاب الحقيقي هو الذي ينفذه اردوغان الآن؟ هل سيحسن اردوغان استغلال الانقلاب لصيانة الديموقراطية، أم انه سيجنح نحو عسكرة مقنعة للحياة السياسية، يؤمنها له التأييد الشعبي عبر صناديق الاقتراع؟ ماذا عن المعارضة التركية؟ لماذ لم تلتقط الاشارة، ونأت بنفسها؟ ماذا عن الأكراد الذين لم يستغلوا الظرف؟. من هو المستفيد الأول أو المستفيدون مما حصل؟ وكيف سينعكس الأمر على «داعش»؟وماذا عن كل فتائل التفجير المتصلة بساعات الحكم التركي؟ وماذا عن خاصرته الأوروبية وجبهته السورية وعقدته الكردية؟من انقلب على من ومن حسم لمصلحة من؟ ويبقى السؤال الاهم، من كان يقف وراء محاولة الانقلاب؟
من ليل تركيا الأحمر، بعد ليل فرنسا الدامي، تكثر الاسئلة وتتشعب، اذ يبدو ان الاجابة تحتاج إلى بعض إن لم نقل إلى كثير من الوقت.