IMLebanon

واشنطن في العراق وسوريا ولبنان: قصّة ابريق الزيت

 

يتشارك الوسط السياسي اللبناني في محاولة فهم أبعاد الخطوة الأميركية في شمال سوريا مع الإعلام الغربي ومعظم مراكز الدراسات الاستراتيجية، وتلمّس مدى ارتداد ذلك على لبنان حاضراً ومستقبلاً.

تكمن محاولة استطلاع التوقيت لأن الحدث السوري طغى فجأة على كل ما عداه، وأتى من مكان غير متوقع، بعدما كادت تطورات المنطقة تأكل من رصيد سوريا، بعد الاشتباك اللبناني الإسرائيلي، ومن ثم استهداف أرامكو، وانفجار الوضع العراقي. ورغم توالي المحطات السورية السياسية، إلا أن عودة شمال سوريا الى الواجهة، من بوابة واشنطن، تعيد التذكير مجدداً بأن كل حلقات السلسلة في الشرق الأوسط مترابطة، لأن اللاعبين الأساسيين هم أنفسهم. وهذا يذكي التكهنات بأن شيئاً ما يُهيّأ لسوريا ولا يمكن أن يكون إلا جزءاً مما يعدّ للساحات الأخرى المترابطة معها.

ليست المرة الأولى التي تصبح فيها الخطوات الأميركية في سوريا، عكس المتوقع، سواء في ظل إدارة الرئيس الأميركي السابق الديموقراطي باراك أوباما كما حصل مع قرار اللاضربة عسكرية بعد اتهام النظام السوري باستخدام أسلحة كيمائية، أو الجمهوري الحالي دونالد ترامب، مع قراره سحب قوات أميركية من شرق سوريا. تسعى كل القراءات الى استطلاع الأسباب والنتائج المترتبة على هذا القرار، في ظل كلام عن مقايضة بين الانسحاب الأميركي بالاتفاق مع روسيا، مقابل سحب روسيا النفوذ الإيراني من سوريا. قد يكون من المبكر التعامل مع هذا الكلام، قبل توضح الصورة كاملة، في انتظار ردة فعل تركيا وجدية التهديد الأميركي إزاء أي عملية تركية، من دون إغفال التنسيق غير المعلن بين واشنطن وتركيا وروسيا، حول هذه المنطقة العازلة التي تستفيد منها تركيا، بخلق شريط حدودي يضم النازحين السوريين إليها، فتضمن بذلك فك ارتباط أكراد سوريا وتركيا. ليتبلور بالنسبة الى بعض اللاعبين جزء من حل أزمة النازحين الكبرى، وإحداث تغيير ديموغرافي واضح، ويتكرس دور تركيا وروسيا في سوريا، في مقابل الكباش الأميركي مع إيران.

لم يتوقف الحوار الأميركي الروسي في شأن سوريا والمفاوضات لرسم صورة النظام أو مستقبل سوريا، أو لتحديد معالمها بجغرافيّتها المتغيّرة عن تلك التي كانت قائمة. وتبعاً لذلك، فإن الكلام عن احتمالات حدوث مقايضات في الساحة السورية ليس جديداً، لكن أدوات تطبيقه ليست في يد الأميركيين والروس وحدهم. لأن من الصعب الاعتقاد، بعد تطورات العراق الأخيرة، بأن إيران يمكن أن تسلّم بسهولة انتزاع ورقة سوريا من يدها ولو لحساب حليف كروسيا. وهنا أيضاً يمكن التوقف عند التطورات العراقية، من الوجهة الاقتصادية، لأن ما حصل يذكّر أيضاً بالحديث قبل أسابيع عن تدهور الوضع الاقتصادي السوري (بعيداً عن تكاليف الحرب وآثارها) ومن ثم انفجار الملفات الاقتصادية والمالية دفعة واحدة في لبنان.

لا يمكن وفق ذلك التعامل مع القرارات الأميركية إزاء سوريا بغير ما حصل في العراق ولبنان والساحات التي تفرض فيها واشنطن نفوذها وحضورها. منذ وقت غير قصير، لم يعد الموالون لواشنطن في لبنان يعوّلون على أيّ تدخّل أميركي فاعل في لبنان، بالشكل الذي جرى بعد عام 2005. تبعاً لذلك، يصبح دائماً اتهام هذا الفريق، الذي لم يعد واحداً، بأنه نواة انقلاب ما على الوضع الحالي، مبالغاً فيه. لأن لا فريق سياسياً يشبه الفريق الذي كان عاملاً قبل سنوات، ولا إدارة أميركية متورطة الى جانب أي من خصوم إيران على افتراض أنها اليوم الخصم الأميركي في لبنان. من هنا، يصبح التخلي عن أكراد سوريا واحداً من مشاهد مماثلة سبق أن حصلت. لا يعني ذلك أن الأكراد لا يتحملون مسؤولية ما. لكن لبنان يختلف بحساباته وتقاطعاته، ويختلف أيضاً بطبيعة ردة الفعل الأميركية إزاءه. فالعقوبات التي تفرضها واشنطن على حزب الله، أو التي ترفع وتيرة الضغط من خلالها على حلفائه، لا تصبّ في مصلحة حلفاء لها في لبنان. بل تأتي في إطار رفع شروطها التفاوضية مع إيران، سواء في الاتفاق النووي أو في تسوية شرق أوسطية كاملة، وبالحد الأدنى إبقاء ضغطها على الحزب لمصالح انتخابية أو داخلية بحت تتعلق بكيفية إدارة كل فريق حاكم ملف التعامل مع الحزب ومؤسساته ومن خلفه إيران. والضغوط الأميركية الحالية والحديث عن رفع سقف العقوبات يدخل في سياق السياسة ذاتها، التي تفرض إيقاعاً وحيداً يتعلق بمصالح الولايات المتحدة أولاً وآخراً، كما حصل حين تدخلت واشنطن مع قوى 14 آذار، ووافقت على انتخاب خصمها الرئيس ميشال عون، ووقفت أخيراً الى جانب رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، أو الى جانب الجيش اللبناني، أو حاكم مصرف لبنان.

من المفيد وفق التطور السوري العودة الى أسباب الدخول الأميركي الى العراق ونتائجه، ومن ثم سوريا، وقبلهما تسليم رعاية الوضع اللبناني الى دمشق طوال خمسة عشر عاماً، للهدف نفسه، وسط خشية أفرقاء لبنانيين من حلفاء واشنطن أن يكون لبنان ورقة تفاوض جديدة مع إيران، فتعيد واشنطن تسليمه لها، كما فعلت سابقاً مع سوريا. وما حصل في شمال سوريا عزّز هذه المخاوف.