IMLebanon

أولويات أوروبية وأميركية في انعكاسات الحرب على لبنان

 

 

تختلف أولويات واشنطن والعواصم الغربية تجاه احتمالات دخول لبنان في الحرب. ثمّة انتظارات سياسية لحرب غزة تتعلق بموقع إسرائيل المستقبلي. لكنّ الحاجة اليوم الى استقرار لبنان تبدو واضحة لحسابات مختلفة

 

منذ اليوم الأول لحرب غزة، بدأت محاولات غربية جدية لتحييد لبنان عن مجريات الحدث العسكري. وكان المقصود ليس فقط إبعاد لبنان عن تكرار تجربة حرب تموز، وإنما عن دخوله في صلب معركة لن تقف حينها على حدوده فحسب. يمثل لبنان، بذلك، ساحة محورية إما تنتقل عبرها الحرب الى المنطقة، أو يتم حصرها في غزة.

 

ورغم ما يحدث على الحدود الجنوبية منذ أسبوعين، لا يزال انطباع المتصلين بدوائر غربية أن ما يجري على مستوى عالٍ من الاتصالات والمفاوضات الدولية أكبر مما يصل الى مسامع المسؤولين اللبنانيين، ويهدف في شقّ منه الى «حماية» ما يجري في غزة من أي «تدخل خارجي». وحتى الآن، أصبح ذلك قائماً في يوميات الحرب الدائرة بين الجيش الإسرائيلي وحماس، من دون أن تتوسع لائحة المشاركين الفعليين في الحرب على مستوى عالٍ، وعزل أي تدخل خارجي يهدف بحسب هؤلاء الى ترك مجريات المعركة العسكرية تأخذ مداها، لاستكشاف ما قد ينجم عنها من تداعيات سياسية يُبنى عليها. القراءة الأولى التي يتحدث عنها الموفدون الغربيون تشير الى مستويَين من المعركة: آنيّ ومستقبلي. ولا يمكن التعويل على مفاوضات الهدنة الإنسانية الآنية لرسم خريطة مستقبلية، ولا سيما من وجهة نظر إسرائيلية باتت تتحدث عن صراع طويل الأمد وتخطّي كل الأفكار التي كانت مطروحة في مؤتمرات دولية أو مبادرات سلام، وعلى رأسها حلّ الدولتين. وفق ذلك، يصبح مضموناً في الكلام الغربي تأكيد الذهاب الى مرحلة مختلفة بحيثياتها جذرياً عن المرحلة الماضية، لجهة نوعية الصراع الذي عاد الى منطقة الشرق الأوسط على أساس القضية الفلسطينية بعد سنوات طويلة من تقدم قضايا إقليمية ودولية أخرى في المشهد السياسي الدولي. والعودة أصبحت محفوفة أكثر بمخاطر تتعلق بموقف إسرائيل من الفلسطينيين والدول العربية، استناداً الى عملية 7 تشرين الأول، وما تركته من آثار على فكرة وجود دولة إسرائيل. وهذا الأمر هو الذي يشكّل لبنة مفاوضات الدول الغربية في العمل على ضبط الصراع العسكري في إطاره الحالي، قبل الذهاب الى مفاوضات أوسع مدى، من المبكر جداً الكلام عنها أو التكهّن بما يطرح فيها وفقاً لنتائج المعركة. لذا، بدل الكلام عن مفاوضات تتعلّق بأفق الصراع الإسرائيلي العربي – الفلسطيني، يتقدم الكلام عن حشود عسكرية لمعظم الأطراف الغربيين في المنطقة، توازياً مع مفاوضات التهدئة المرحلية، استعداداً لأيّ تدهور يتمدد في لحظة اصطدام بين معسكرين الى الساحات الأخرى، ومنها لبنان.

 

حين تنتهي «المنازلة بحدودها المعروفة حتى الآن»، يصبح لبنان من ضمن الملفات العالقة التي تحتاج إلى حل شامل

 

 

لا تتعلق مقاربة الوضع اللبناني فقط بقرار الحرب والسلم. ثمّة غياب للإمرة السياسية، بما يتخطى وجود حكومة تصريف الأعمال، لأن استحقاقاً مصيرياً كالذي يواجهه لبنان يحتاج الى إدارة أزمة حقيقية، غير متوافرة. فهل من السهل، مثلاً، بحث هؤلاء الموفدين مع قائد للجيش وضع الحرب وآفاقها، فيما هو على طاولة تجاذب السياسيين قبل انتهاء ولايته بشهرين يمكن أن تتوسع الحرب خلالهما. وهل يمكن الركون فعلياً الى أجوبة واضحة وملزمة، فيما الهيكلية السياسية مضعضعة، وتختلف مقاربتها حتى على مستويات الصف الأول؟

المفارقة الثانية في اختلاف أولويات الموفدين الغربيين تحت خانة تحييد لبنان: تريد الولايات المتحدة وأوروبا الاستقرار، وهناك سعي جدّي مع الجهات الفاعلة لمنع إحداث توتر داخلي على تماسّ مع مجريات غزة. تختلف التحذيرات الغربية لمواطنيها، وهو شأن داخلي كما هو نوع من الضغط المعنوي، عن التعامل مع لبنان كساحة محتملة للحرب، إذ يستمر الضغط لانتظار تحوّلات الحرب، وحين تنتهي «المنازلة بحدودها المعروفة حتى الآن»، يصبح لبنان من ضمن الملفات العالقة التي تحتاج الى حل شامل. وأي مسّ داخلي بالأوضاع لا يؤتي ثماره، ويزيد من الأعباء التي لا ضرورة لها. ولأميركا منذ بداية الحرب نظرة أخرى، لا تتعلق بمصالحها المباشرة، أو وجودها العسكري الذي رفعت من شأنه على مستوى المنطقة. ما يعني واشنطن اليوم، وهي تقف الى جانب إسرائيل، ألّا يتحوّل لبنان إلى مشكلة إضافية، هي في غنى عن التعاطي معها. لذلك تحرص على إيصال رسائل واضحة، وتبدو حتى الآن مرتاحة الى مستوى ما يجري في الجنوب من رسائل متبادلة محدودة.

 

يمثل لبنان لواشنطن غير ما يمثله لدول أوروبية، لحاجة معروفة تتعلق بدور القوات الدولية العاملة في الجنوب. ومن الصعب تجاوز كل ما أحاط أممياً وأوروبياً بدور القوة الدولية في السنتين الأخيرتين. من هذه الزاوية، يصبح لكلام وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس وزيارة نظيره الفرنسي سيباستيان لوكورنو لبيروت مغزى مختلف عن حاجة لبنان الى الاستقرار. فباريس تهدف من زيارة وزير دفاعها إلى البحث جدياً في كل ما يمسّ عمل القوة الدولية، ليس فقط لجهة حماية الحدود، البحرية (ألمانيا) والبرية (فرنسا) بالمعنى التقليدي، بل وجودها كقوة دولية وسلامة أفرادها، فلا تتحوّل إلى خاصرة رخوة لأوروربا، علماً أن لفرنسا وألمانيا موقفاً حالياً غير منسجم إجمالاً مع سياسة البلدين المعهودة في ما يتعلق بالوضع في المنطقة. للمرة الأولى، تقف ألمانيا بهذا الشكل وراء الموقف الأميركي، الى جانب إسرائيل، وتقف فرنسا موقفاً مرتبكاً، وتخطو خطوات متعثّرة، كما هي عادة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منذ تولّيه منصبه، رغم ما يمكن أن يرتدّ على باريس من إدارته للأزمة الحالية. لكنّ كليهما ينظران من ضمن موقف أوروبي – بريطاني نظرة موحّدة الى حرب غزة. أما لبنانياً، فيتعاطيان مع إيطاليا على قاعدة حماية جنودهما في الجنوب، من دون أن يحصرا تدخّلهما بهذا الملف، ولا سيما باريس التي تسعى الى ترويج سياستها الديبلوماسية بعدم استثناء أحد من اللاعبين الكبار. وذلك من ضمن استراتيجية وقف حرب غزة وطرح حلول طويلة الأمد، يستفيد منها لبنان، وتستفيد منها أوروبا التي لا تريد دولها توسّع الصراع، ونقله بوجوه مختلفة الى بلادها. وهذه أولوية لا أحد أوروبيّاً يستخفّ بها.