IMLebanon

النفايات وحدها… فخر الصناعة اللبنانية

كان زمن تصلنا فيه الخضار والفواكه على أنواعها في علب كرتون سميك، كتب عليها بخط أحمر دقيق «منتوجات لبنان، فخر الصناعة الوطنية». وكانت تلك العلب ترصف في محلات البقالة وتوضب في سيارات الباعة الجوالين في الأحياء في شكل أفقي بحيث لا يبقى ظاهراً منها إلا تراكم تلك العبارة فوق بعضها بعض وتكرارها في شكل كاريكاتوري: فخر الصناعة الوطنية. فخر الصناعة الوطنية. حتى قد يبدو ذلك من بعيد ككشك صحف لا يبيع الا منشوراً حزبياً بعنوان واحد.

ومهما حوى الصندوق من أصناف خضار او فواكه، وغالباً ما لا تتعدى جودتها الطبقة الظاهرة للعيان أو حرفياً كما نقول «وجه الصحارة»، كان يكفي انها من «منتوجات لبنان»، ليشعر مستهلك ذاك الزمن بشيء من الطمأنينة و «الفخر»، ويتقدم ما بداخلها تلقائياً على سواه من منتجات بلدان اشتهرت عالمياً بزراعاتها. هكذا كان الموز البلدي، أحلى من الصومالي، والبطاطا البقاعية أكثر قرمشة من السورية، والطماطم الجبلية أشهى بما لا يقارن من تلك «البلاستيكية» الواردة من الأردن… وهكذا دواليك وفق المواسم والفصول.

ثم جاء زمن توقف توضيب المنتجات الزراعية على هذا النحو الوطني الموحد، ودخل البلاستيك والسوبر ماركت الى وتيرة الاستهلاك اليومي، واختلط الحابل بالنابل مع بداية عهد الإعمار وإطلاق مرحلة ما بعد الحرب، وانهارت قيم وعلت على أنقاضها قيم، لكن يقيناً واحداً بقي راسخاً لدى اللبنانيين مفاده أن كل ما ينتج منهم، وتنبته أرضهم وتلفظه عقولهم وألسنتهم وأمعاؤهم، لا يزال فخر أي صناعة على الإطلاق.

وقياساً على هذه العقلية التي احترفت تحويل الآثام فضائل، والشواذ قاعدة، والخطأ صواباً، وكرست منطق «اللامنطق» في تسيير الحياة العامة، يكرر اليوم سيناريو النفايات نفسه الذي انفجر في الثمانينات والتسعينات. إنها براميل من النفايات المشعة والسامة التي استوردها لبنان من ايطاليا وطمرها في البحر والجبل مقابل مبالغ طائلة ذهبت الى جيوب سياسيين ومتنفذين لا تزال اسماؤهم تتكرر اليوم هي نفسها على مسامعنا، وما زالوا في مواقع القرار نفسها… ومرتبطين بملفات الفساد نفسها.

ولكن يبدو ان اللبنانيين آثروا طي هذا الملف كغيره، وهو الذي تبين انه الثابت الوحيد في تلك الأزمنة المتحولة. ذاك ان سوق النفايات دون سواه من القطاعات الانتاجية اللبنانية، قاوم حركة السوق استيراداً وتصديراً وبقي على ثبات في در الأرباح.

وتكفي استعادة بعض الذكريات الفردية عن تلك الحقبة، ولا شك في أن لكل لبناني بضعة منها، واستحضار الرعب الهائل آنذاك من تناول أي شيء أكلاً أو شرباً أو لمساً، لما قد يضخه من سرطان وأشعة سامة… ليشعر الواحد منا أنه مكتوب عليه ان يولد في مزبلة ويطمر في مكب.

وقد يفيد في السياق ارشيف الصحف الصادرة في تلك الحقبات المتفاوتة لوضع الأمور في نصابها، بعيداً من الشحنات العاطفية والمسارات الشخصية. في تحقيق صادر في مجلة «الوسط» (الشقيقة)، العدد 159 الصادر في 13/2/1995، بعنوان: «هل هي فصل آخر من فصول تصفية حسابات «القوات اللبنانية»؟/لبنان: النفايات تعبق برائحة فضيحة سياسية كبرى»، جاء ما يلي:

«بدأت قضية النفايات الصناعية الخطرة والمواد الكيماوية المستعملة من صناعة الاسلحة الكيماوية في صيف 1986 في عهد الرئيس امين الجميل، حين انفجر مستودع في أحد الأبنية السكنية، في منطقة فرن الشباك شرق العاصمة، وذهب ضحيته عشرات القتلى والمصابين بعاهات دائمة، وضرب حينها طوقاً أمنياً في المنطقة من قبل الميليشيا المسيطرة. وفي 21/9/1987 ظهرت الموجة الثانية للقضية، حين وصلت الباخرة «راد هوست» من ايطاليا الى الحوض الخامس في مرفأ بيروت محملة بحوالى 16 ألف برميل تقريباً من النفايات بأحجام مختلفة، قدرت زنتها بحوالى 2400 طن».

إذا ما تغاضينا عن فداحة ان يتكرر عنوان صحافي لأكثر من عشر سنوات، وما يعكسه ذلك من تردٍ لأوضاعنا، وتكرار اللازمة نفسها بأن اي ملف معيشي هو «تصفية حسابات سياسية»، فلا بد من أن نتوقف طويلاً عند «عهد الرئيس أمين الجميل». ذاك ان منطق «اللامنطق» السائد اليوم والقائل بأن المشكلات كلها تحل بانتخاب رئيس للجمهورية، اثبت بالتجربة ان ما يصحّ في بقية السياسيين قد يصح في الرئيس نفسه… وقد لا يكون بالضرورة غيابه اسوأ من حضوره.

ولا ننسى ان نهاية الثمانينات التي شهدت صفقة البراميل السامة وطمرها كانت فترة تشبه ما نمر به اليوم الى حد بعيد. فهي الخط الفاصل بين نهاية الحرب الأهلية بوتيرتها السابقة، وانطلاق «حرب التحرير» بين القطبين المسيحيين عون وجعجع، فيما رئاسة الجميل متأرجحة بين حكومة معطلة ونفوذ سوري مستشرٍ. وهو حال اي رئيس قد يصل اليوم الى بعبدا ولا يملك ان يسأل ما يجري في مرفق عام كمطار بيروت.

المشكلة إذاً لا يحلها منصب مهما علا، وإن بلغ الكرسي الرئاسي. المشكلة تكمن في وعي عام بنى فخره واعتزازه على أكوام من النفايات المحلية والدولية، العضوية والسامة، وجعل لها نظرية فكرية بنظام السياسي.

لذا لا يفيد والحال على ما هي عليه، شغل الشواغر بدمى إلا إذا كان المطلوب اعادة توضيب البضاعة الفاسدة، وتسويقها على انها «فخر الصناعة اللبنانية».