في كل أزمة يمر بها لبنان، يملك اللبنانيون قابلية لافتة لمنح المعنيين أسبابًا تخفيفية عن التقصير، حتى لو انعكس ذلك سلبًا على حياتهم اليومية وحقهم في الخدمات الأساسية. وعلى هذا المنوال، تتحوّل أزمة شح المياه التي يعيشها اللبنانيون إلى مسألة “طبيعية” يسهل تعليقها على شماعة التبدّل المناخي وتراجع المتساقطات، رغم معرفة الجميع أن الخلل ليس سوى نتيجة تراكمية للأزمات، والطبيعة ليست سوى عامل مساعد في إبرازها. وما يجري في زحلة ومؤسسة مياه البقاع مثال واضح على ذلك.
مساء الثلاثاء في 12 آب الجاري، أصدرت مؤسسة مياه البقاع بيانًا أعلنت فيه أنه “نتيجة الارتفاع الشديد في درجات الحرارة، وتزايد الطلب على المياه، بالإضافة إلى الانقطاع المستمر في التيار الكهربائي على كافة الأراضي اللبنانية إثر تراجع التغذية بالطاقة الكهربائية، وتراجع فعالية أنظمة الطاقة الشمسية بسبب درجات الحرارة التي تخطّت 45 درجة مئوية، فقد تأثّر تشغيل محطات الضخ بشكل ملحوظ”. ودعت المؤسسة المواطنين إلى ترشيد استهلاك المياه قدر الإمكان خلال هذه الفترة، حفاظًا على استمرار الخدمة لأطول فترة ممكنة.
البيان الأخير لمؤسسة مياه البقاع يأتي بعد شهر واحد بالتمام من بيان سابق لها، حمّل الظروف المناخية أيضًا مسؤولية التقنين الذي بدأت بفرضه نتيجة لتراجع كميات المياه التي تغذّي خزان محطة زحلة من نبع قاع الريم. وقد توقّعت المؤسسة حينها مزيدًا من التراجع في تلقي كميات المياه من مصادرها، وعليه أعلنت عن خطوات ترشيدية في توزيع المياه على أحياء المدينة.
بيانا مؤسسة مياه البقاع، اللذان تخللتهما أيضًا بيانات أخرى تحدّثت عن إعادة جدولة ساعات التغذية بما يتناسب مع ساعات ترشيد التغذية بالكهرباء في أوقات الذروة التي لجأت إليها شركة كهرباء زحلة نتيجة لأزمة الكهرباء الطارئة في الأيام الماضية، أثارا ذعرًا لدى الزحليين، الذين تشكّل مياه البردوني مصدرهم شبه الوحيد لمياه الشفة. وتعزّز قلقهم خصوصًا مع رؤية الواقع المأسوي الذي بلغه مجرى النهر في وسط مدينة زحلة تحديدًا. وهذا ما دفع إلى التساؤل عن مدى خطورة الواقع المائي الذي وصلت إليه المدينة، وهل المشكلة فعلًا في تراجع كميات المياه نتيجة لتراجع الهطولات، أم أن هناك أسبابًا أخرى لانعدام الاستقرار المائي في زحلة وسائر قرى ومدن البقاع الواقعة ضمن نطاق مسؤولية مؤسسة مياه البقاع؟
بحسب المعلومات التي توصّلت إليها “نداء الوطن” عبر مصادرها، سُجّل هذا العام تراجع ملحوظ في كميات المياه التي تُضَخ يوميًا من نبع قاع الريم، وسط توقف غير مبرّر لمصدر المياه المتوافر من بئر وادي العرائش. فقد بلغت كمية المياه التي تُضخ حاليًا في الخزان الأساسي الذي يغذي زحلة ونطاقها من محطتها نحو 240 مترًا مكعبًا في الساعة، بعد أن كانت كمية الضخ سابقًا تصل إلى 350 مترًا مكعبًا. تصل هذه الكميات إلى خزان محطة زحلة، الذي يتسع لنحو ألف متر مكعب، بالجاذبية. ولا يوجد أي مصدر بديل عنها سوى بئر وادي العرائش، الذي كانت هناك مطالبات بتشغيله منذ ظهور ملامح الأزمة الأولى، ولكنها لم تؤدِّ إلى نتيجة. وعليه، عندما هبط نظام المياه، انعكس تأخر امتلاء خزان المياه على توزيع كمياته على الأحياء، فكان أول المتضرّرين أحياء زحلة المرتفعة.
في المقابل، وجدت المؤسسة صعوبة في توزيع الكميات المتوافرة بالتساوي بين مختلف الأحياء، نتيجة للهدر الكبير في كميات المياه، إما بسبب التعديات، أو بسبب الأعطال في الشبكات، أو بسبب تعطل العوامات في خزانات المنازل عن قصد أو غير قصد، أو حتى بسبب سرقة المياه. وبالنتيجة، انتهينا إلى أحياء تتغذّى من المياه بوفرة، وتهدر فيها المياه على الطرقات، وأحياء أخرى تعاني نقصًا حادًا في المياه، وذلك في ظل تكدّس عمال “غب الطلب” ضمن توظيفات سياسية ومحسوبيات تجعل الإنتاجية في المؤسسة بحدها الأدنى.
هذه المشكلة تتكرر في معظم البلدات والمدن التي تقع ضمن نطاق مسؤولية مؤسسة مياه البقاع، إذ إن مصادر المياه متوافرة وفقًا لما يؤكده المصدر، سواء من الآبار أو من الينابيع، وحتى أن الكهرباء ليست عائقًا في معظم الأحيان. بينما قرى كثيرة تعيش على جدول ضخّ غير منتظم للمياه، ليروى بعضها أحيانًا مرة واحدة فقط في الأسبوع إذا توافرت الطاقة الشمسية.
إذًا، ما يُسوَّق له كـ “أزمة طبيعية” بفعل المناخ ما هو إلا نتاج إدارة متعثّرة، حيث الهدر، التعديات، والزبائنية، تجعل أي أزمة مناخية تتحوّل إلى كارثة مائية، وتحوّلها ذريعة لتبرير الإخفاقات. بينما الحلّ، بحسب رأي خبير ميداني، يبدأ بتعيين مدير عام أصيل للمؤسسة، ومجلس إدارة فعّال يرسي إدارة جدّية قادرة على مواجهة الأزمات أيًا تكن، خصوصًا أن مصادر التمويل متوافرة عبر الجهات المانحة، وهناك إمكانية لتوظيفها بإنتاجية أكبر بدلًا من إنفاقها في توظيفات زبائنية لم تجد المؤسسة ولا المواطنين نفعًا.
لم يعيّن مجلس الوزراء مديرًا عامًا أصيلًا لمؤسسة مياه البقاع منذ استقالة المدير العام السابق رزق رزق واعتبارها نافذة في شباط 2022. وتدار المؤسسة منذ نهاية العام 2023، من خلال تكليف موقت مدد له مرات عدة.