IMLebanon

أين هي الحرب الباردة؟

يعيش العالم العربي على المستوى الجيوسياسي إحدى نتائج نهاية «الحرب الباردة» وليس تجدّدها. منذ أواسط الثمانينيات من القرن الماضي كان النفوذ السوفياتي قد انحسر إلى أبعد حد في المنطقة ولا سيما في الدول ذات التوجه القومي. اجتاح الغرب المنطقة العربية ومحيطها وهو يلفّها الآن بالنفوذ السياسي والاقتصادي والقواعد العسكرية. باستثناء سوريا لم ترث روسيا نفوذاً ملموساً ولا حتى علاقات مميزة على مستوى تصدير السلاح وهو السلعة شبه الوحيدة التي يمكن أن تقدّمها. ما سمّي «الحرب الباردة» أو الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي بعد الحرب العالمية الثانية كان يستند إلى معطيات عدة يصعُب توفرها اليوم. من جهة كانت روسيا قد خرجت من الحرب منتصرة على النازية في أوروبا وقد احتلت أوروبا الشرقية مباشرة أو بواسطة حركات المقاومة اليسارية، وأنشأت حلفاً عسكرياً ضخماً بعيداً عن المدى الجغرافي الأميركي، كما رعت حركات تحرر وطني في العالم الثالث أدّت إلى إنهاء الاستعمار الأوروبي القديم. ومن جهة ثانية امتلكت أيديولوجية تحرّرية جذبت ملايين البشر ونشأت من حولها أقوى الحركات السياسية واستطاعت أن تقدم المساعدات المادية وأَوَد هذه الثورات ولا سيما السلاح، كما قدمت نموذجاً للتنمية والبناء الاقتصادي المستقل ساعد على الصمود ولو فشل أخيراً في ميدان المنافسة. خرجت أميركا من الحرب الثانية كمنتصر أول وكقوة عسكرية واقتصادية أولى وحملت راية الدفاع عن «العالم الحر». ثم انتصرت في «الحرب الباردة» بإعلان انهيار المعسكر الاشتراكي ليس فقط كقوة مادية بل كنموذج للتنافس بين نظامين اجتماعيين.

في عزّ القوة السوفياتية التي دعمت حق الشعوب في التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي، لم يحصل توازن إلا بمقدار ما استطاعت الشعوب تنظيم قدراتها وطاقاتها وتقديم التضحيات الهائلة. ولم تصمد الدول المستقلة حديثاً إلا تلك التي اختارت النموذج السوفياتي نفسه، بينما انخرطت بقية الدول في دائرة السوق العالمي والعلاقات الاقتصادية التي قادتها إلى شكل جديد من التبعية.

انتهت «الحرب الباردة» من بوابة الاتحاد السوفياتي وليس من أطرافه. إن فشل النموذج الذي تظهّر في السبعينيات كان سباق التسلح أحد عناوينه، لكنه فشل اقتصادي وسياسي عموماً كان من نتيجته انفصال معظم الدول التي كوّنت الإمبراطورية من قبل، وهو انفصال أظهر عمق أزمة الارتباط لجهة وتائر التنمية المتوازنة وحقوق الإنسان وحرياته وتأزّم القضايا القومية والاثنية. ويظهر طموح «الاتحاد الروسي» للاحتفاظ بالهيمنة على المدى الحيوي لأمنه القومي في بعض الجمهوريات أو للاحتفاظ بوحدة روسيا الحالية نفسها هو مسألة تتوقف على خيارات بديلة وليس على تصاعد الشوفينية القومية الروسية، التي تحملها أحزاب سياسية تشكلت على عجلة من مراكز النفوذ الاقتصادي الموروث عن جهد الشعوب.

كانت حصيلة العلاقات الروسية الأميركية مخيّبة تماماً لآمال الروس وحاسمة في نهاية تجربة غورباتشوف في تجديد المشروع الروسي. لقد كان عطل الدولة الروسية عميقاً إلى الحد الذي استحال تعديله من دون انكسار. وكان الغرب في انتظار جني ثمار نصف قرن من الصراع ومن السعي لهدم النموذج والفكرة ذاتهما. ما يسعى إليه الرئيس بوتين الآن قد ينجح في بعث المشروع القومي أو المصالح القومية للدولة التي تحركها الآن ولكنه لا يملك مقومات إعادة الاستقطاب السابق في العالم ولا أدواته الأساسية.

لم تتصف السياسة الخارجية السوفياتية أبداً بالمغامرات العسكرية إلا في لحظات نادرة من الدفاع عن أمنها القومي. أما السياسة الروسية فقد خضعت للكثير من التحديات بدءاً من أوروبا الشرقية ولم تستجب ولن تستجيب للمواجهات العسكرية، كما صرّح الرئيس بوتين نفسه، على الأقل في المدى المنظور. الغرب الذي اتصف بالمغامرات العسكرية لا يسعى الآن إلى نوع من الحروب التقليدية ذات المردود السلبي على اقتصاده وعلى ما يعتبره «رسالته الكونية». وليس من قضايا عالمية اليوم يمكن أن تفرز على أساسها الشعوب بين معسكرين يسعيان إلى النموذج نفسه. إذا كان المقصود استعارة مصطلح «الحرب الباردة» لوصف الصراع على النفوذ فهي استعارة غير موفقة خاصة في زمن العولمة الراهنة التي وضعت العالم في الشبكة العنكبوتية ذاتها للرأسمالية العابرة للقوميات والقارات والدول.

إن انهيار النظام العربي وخاصة جناحه القومجي هو إحدى النتائج لانهيار الظهير الدولي الذي رعاه. العالم العربي الآن بحيرة للمصالح الأميركية والغربية يحاول البعض في الإقليم أن يرسم فيها دوائر على السطح بإلقاء حجارة صغيرة.